(
كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كذبوا بآياتنا فأخذهم الله بذنوبهم والله شديد العقاب ) .
قوله تعالى (
كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كذبوا بآياتنا فأخذهم الله بذنوبهم والله شديد العقاب ) .
يقال : دأبت الشيء أدأب دأبا ودءوبا إذا أجهدت في الشيء وتعبت فيه ، قال الله تعالى : (
سبع سنين دأبا ) [ يوسف : 47 ] أي بجد واجتهاد ودوام ، ويقال : سار فلان يوما دائبا ، إذا أجهد في السير يومه كله ، هذا معناه في اللغة ، ثم صار الدأب عبارة عن الشأن والأمر والعادة ، يقال : هذا دأب فلان أي عادته ، وقال بعضهم : الدءوب والدأب الدوام .
إذا عرفت هذا فنقول : في كيفية التشبيه وجوه : الأول : أن يفسر الدأب بالاجتهاد ، كما هو معناه في أصل اللغة ، وهذا قول
الأصم والزجاج ، ووجه التشبيه أن
دأب الكفار ، أي جدهم واجتهادهم في تكذيبهم بمحمد صلى الله عليه وسلم وكفرهم بدينه كدأب آل فرعون مع موسى عليه السلام ، ثم إنا أهلكنا أولئك بذنوبهم ، فكذا نهلك هؤلاء .
الوجه الثاني : أن يفسر الدأب بالشأن والصنع ، وفيه وجوه الأول : (
كدأب آل فرعون ) أي شأن هؤلاء وصنعهم في تكذيب
محمد صلى الله عليه وسلم ، كشأن
آل فرعون في التكذيب
بموسى ، ولا فرق بين هذا الوجه وبين ما قبله إلا أنا حملنا اللفظ في الوجه الأول على الاجتهاد ، وفي هذا الوجه على الصنع والعادة . والثاني : أن تقدير الآية : إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا ، ويجعلهم الله وقود النار كعادته وصنعه في
آل فرعون ، فإنهم لما كذبوا رسولهم أخذهم بذنوبهم ، والمصدر تارة يضاف إلى الفاعل ، وتارة إلى المفعول ، والمراد هاهنا ، كدأب الله في
آل فرعون ، فإنهم لما كذبوا برسولهم أخذهم بذنوبهم ، ونظيره قوله تعالى : (
يحبونهم كحب الله ) [ البقرة : 165 ] أي كحبهم الله ، وقال : (
سنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا ) [ الإسراء : 77 ] والمعنى : سنتي فيمن أرسلنا قبلك . والثالث : قال
القفال رحمه الله : يحتمل أن تكون الآية جامعة للعادة المضافة إلى الله تعالى ، والعادة المضافة إلى الكفار ، كأنه قيل : إن عادة هؤلاء الكفار ومذهبهم في إيذاء
محمد صلى الله عليه وسلم كعادة من قبلهم في إيذاء رسلهم ، وعادتنا أيضا في إهلاك هؤلاء ، كعادتنا في إهلاك
[ ص: 162 ] أولئك الكفار المتقدمين ، والمقصود على جميع التقديرات
نصر النبي صلى الله عليه وسلم على إيذاء الكفرة وبشارته بأن الله سينتقم منهم .
الوجه الثالث : في تفسير الدأب والدءوب ، وهو اللبث والدوام وطول البقاء في الشيء ، وتقدير الآية : وأولئك هم وقود النار كدأب
آل فرعون ، أي دءوبهم في النار كدءوب
آل فرعون .
والوجه الرابع : أن الدأب هو الاجتهاد ، كما ذكرناه ، ومن لوازم ذلك التعب والمشقة ليكون المعنى ومشقتهم وتعبهم من العذاب كمشقة
آل فرعون بالعذاب وتعبهم به ، فإنه تعالى بين أن عذابهم حصل في غاية القرب ، وهو قوله تعالى : (
أغرقوا فأدخلوا نارا ) [ نوح : 25 ] وفي غاية الشدة أيضا وهو قوله (
النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب ) [ غافر : 46 ] .
الوجه الخامس : أن المشبه هو أن أموالهم وأولادهم لا تنفعهم في إزالة العذاب ، فكان التشبيه
بآل فرعون حاصلا في هذين الوجهين ، والمعنى : أنكم قد عرفتم ما حل
بآل فرعون ومن قبلهم من المكذبين بالرسل من العذاب المعجل الذي عنده لم ينفعهم مال ولا ولد ، بل صاروا مضطرين إلى ما نزل بهم فكذلك حالكم أيها الكفار المكذبون
بمحمد صلى الله عليه وسلم في أنه ينزل بكم مثل ما نزل بالقوم تقدم أو تأخر ولا تغني عنكم الأموال والأولاد .
الوجه السادس : يحتمل أن يكون وجه التشبيه أنه كما نزل بمن تقدم العذاب المعجل بالاستئصال فكذلك ينزل بكم أيها الكفار
بمحمد صلى الله عليه وسلم وذلك من القتل والسبي وسلب الأموال ، ويكون قوله تعالى : (
قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم ) كالدلالة على ذلك فكأنه تعالى بين أنه كما نزل بالقوم العذاب المعجل ، ثم يصيرون إلى دوام العذاب ، فسينزل بمن كذب
بمحمد صلى الله عليه وسلم أمران : أحدهما : المحن المعجلة وهي القتل والسبي والإذلال ، ثم يكون بعده المصير إلى العذاب الأليم الدائم ، وهذان الوجهان الأخيران ذكرهما القاضي رحمه الله تعالى .
أما قوله تعالى : (
والذين من قبلهم ) فالمعنى : والذين من قبلهم من مكذبي الرسل ، وقوله (
كذبوا بآياتنا ) المراد بالآيات المعجزات ومتى كذبوا بها فقد كذبوا لا محالة بالأنبياء .
ثم قال : (
فأخذهم الله بذنوبهم ) وإنما استعمل فيه الأخذ لأن من ينزل به العقاب يصير كالمأخوذ المأسور الذي لا يقدر على التخلص .
ثم قال : (
والله شديد العقاب ) وهو ظاهر .