(
قل أؤنبئكم بخير من ذلكم للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وأزواج مطهرة ورضوان من الله والله بصير بالعباد ) .
قوله تعالى (
قل أؤنبئكم بخير من ذلكم للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وأزواج مطهرة ورضوان من الله والله بصير بالعباد ) .
في الآية مسائل :
المسألة الأولى : قرأ
ابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي (
أؤنبئكم ) بهمزتين واختلفت الرواية عن
نافع وأبي عمرو .
المسألة الثانية : ذكروا في متعلق الاستفهام ثلاثة أوجه :
الأول : أن يكون المعنى : هل أنبئكم بخير
[ ص: 173 ] من ذلكم ، ثم يبتدأ فيقال : للذين اتقوا عند ربهم كذا وكذا .
والثاني : هل أنبئكم بخير من ذلكم للذين اتقوا ، ثم يبتدأ فيقال : عند ربهم جنات تجري .
والثالث : هل أنبئكم بخير من ذلكم للذين اتقوا عند ربهم ، ثم يبتدأ فيقال : جنات تجري .
المسألة الثالثة : في وجه النظم وجوه :
الأول : أنه تعالى لما قال : (
والله عنده حسن المآب ) بين في هذه الآية أن ذلك المآب ، كما أنه حسن في نفسه فهو أحسن وأفضل من هذه الدنيا ، فقال (
قل أؤنبئكم بخير من ذلكم ) .
الثاني : أنه تعالى لما عدد نعم الدنيا بين أن منافع الآخرة خير منها كما قال في آية أخرى (
والآخرة خير وأبقى ) [ الأعلى : 17 ] .
الثالث : كأنه تعالى نبه على أن أمرك في الدنيا وإن كان حسنا منتظما إلا أن أمرك في الآخرة خير وأفضل ، والمقصود منه أن يعلم العبد أنه كما أن الدنيا أطيب وأوسع وأفسح من بطن الأم ، فكذلك
الآخرة أطيب وأوسع وأفسح من الدنيا .
المسألة الرابعة : إنما قلنا : إن
نعم الآخرة خير من نعم الدنيا ، لأن نعم الدنيا مشوبة بالمضرة ، ونعم الآخرة خالية عن شوب المضار بالكلية ، وأيضا فنعم الدنيا منقطعة لا محالة ، ونعم الآخرة باقية لا محالة .
أما قوله تعالى : (
للذين اتقوا ) فقد بينا في تفسير قوله تعالى : (
هدى للمتقين ) [ البقرة : 2 ] أن التقوى ما هي ; وبالجملة فإن الإنسان لا يكون متقيا إلا إذا كان آتيا بالواجبات ، متحرزا عن المحظورات . وقال بعض أصحابنا : التقوى عبارة عن اتقاء الشرك ، وذلك لأن التقوى صارت في عرف القرآن مختصة بالإيمان ، قال تعالى : (
وألزمهم كلمة التقوى ) [ الفتح : 26 ] وظاهر اللفظ أيضا مطابق له ، لأن الاتقاء عن الشرك أعم من الاتقاء عن جميع المحظورات ، ومن الاتقاء عن بعض المحظورات ، لأن ماهية الاشتراك لا تدل على ماهية الامتياز ،
فحقيقة التقوى وماهيتها حاصلة عند حصول الاتقاء عن الشرك ، وعرف القرآن مطابق لذلك ، فوجب حمله عليه فكان قوله (
للذين اتقوا ) محمولا على كل من اتقى الكفر بالله .
أما قوله تعالى : (
للذين اتقوا عند ربهم ) ففيه احتمالان :
الأول : أن يكون ذلك صفة للخير ، والتقدير : هل أنبئكم بخير من ذلكم عند ربهم للذين اتقوا .
والثاني : أن يكون ذلك صفة للذين اتقوا ، والتقدير : للذين اتقوا عند ربهم خير من منافع الدنيا ، ويكون ذلك إشارة إلى أن هذا الثواب العظيم لا يحصل إلا لمن كان متقيا عند الله تعالى ، فيخرج عنه المنافق ، ويدخل فيه من كان مؤمنا في علم الله .
وأما قوله ( جنات ) فالتقدير : هو جنات ، وقرأ بعضهم " جنات " بالجر على البدل من خير ، واعلم أن قوله (
جنات تجري من تحتها الأنهار )
وصف لطيب الجنة ودخل تحته جميع النعم الموجودة فيها من المطعم والمشرب والملبس والمفرش والمنظر ، وبالجملة فالجنة مشتملة على جميع المطالب ، كما قال تعالى : (
وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين ) [ الزخرف : 71 ] .
ثم قال : (
خالدين فيها ) والمراد كون تلك النعم دائمة .
ثم قال : (
وأزواج مطهرة ورضوان من الله ) وقد ذكرنا لطائفها عند قوله تعالى في سورة البقرة : (
ولهم فيها أزواج مطهرة ) [ البقرة : 25 ] وتحقيق القول فيه أن النعمة وإن عظمت فلن تتكامل إلا بالأزواج اللواتي لا يحصل الأنس إلا بهن ، ثم وصف الأزواج بصفة واحدة جامعة لكل مطلوب ، فقال ( مطهرة ) ويدخل في
[ ص: 174 ] ذلك الطهارة من الحيض والنفاس وسائر الأحوال التي تظهر عن النساء في الدنيا مما ينفر عنه الطبع ، ويدخل فيه كونهن مطهرات من الأخلاق الذميمة ومن القبح وتشويه الخلقة ، ويدخل فيه كونهن مطهرات من سوء العشرة .
ثم قال تعالى : (
ورضوان من الله ) وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : قرأ
عاصم " ورضوان " بضم الراء ، والباقون بكسرها ، أما الضم فهو لغة
قيس وتميم ، وقال
الفراء : يقال رضيت رضا ورضوانا ، ومثل الرضوان بالكسر الحرمان والقربان وبالضم الطغيان والرجحان والكفران والشكران .
المسألة الثانية : قال المتكلمون : الثواب له ركنان :
أحدهما : المنفعة ، وهي التي ذكرناها ، والثاني : التعظيم ، وهو المراد بالرضوان ، وذلك لأن معرفة أهل الجنة مع هذا النعيم المقيم بأنه تعالى راض عنهم ، حامد لهم ، مثن عليهم ، أزيد في إيجاب السرور من تلك المنافع ، وأما الحكماء فإنهم قالوا : الجنات بما فيها إشارة إلى الجنة الجسمانية ، والرضوان فهو إشارة إلى الجنة الروحانية وأعلى المقامات إنما هو الجنة الروحانية ، وهو عبارة عن تجلي نور جلال الله تعالى في روح العبد واستغراق العبد في معرفته ، ثم يصير في أول هذه المقامات راضيا عن الله تعالى ، وفي آخرها مرضيا عند الله تعالى ، وإليه الإشارة بقوله (
راضية مرضية ) [ الفجر : 28 ] ونظير هذه الآية قوله تعالى : (
وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ومساكن طيبة في جنات عدن ورضوان من الله أكبر ذلك هو الفوز العظيم ) [ التوبة : 72 ] .
ثم قال : (
والله بصير بالعباد ) أي عالم بمصالحهم ، فيجب أن يرضوا لأنفسهم ما اختاره لهم من نعيم الآخرة ، وأن يزهدوا فيما زهدهم فيه من أمور الدنيا .