(
شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم ) .
قوله تعالى (
شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم ) .
اعلم أنه تعالى لما
مدح المؤمنين وأثنى عليهم بقوله (
الذين يقولون ربنا إننا آمنا ) أردفه بأن بين أن دلائل الإيمان ظاهرة جلية ، فقال : (
شهد الله ) وفيه مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أن كل ما يتوقف العلم بنبوة
محمد صلى الله عليه وسلم على العلم به ، فإنه لا يمكن إثباته بالدلائل السمعية ، أما ما يكون كذلك فإنه يجوز إثباته بالدلائل السمعية ، وفي حق الملائكة ، وفي حق أولي العلم ، لكن
العلم بصحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم لا يتوقف على العلم بكون الله تعالى واحدا فلا جرم يجوز
إثبات كون الله تعالى واحدا بمجرد الدلائل السمعية القرآنية .
إذا عرفت هذا فنقول : ذكروا في قوله (
شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم ) قولين :
أحدهما : أن الشهادة من الله تعالى ، ومن الملائكة ، ومن أولي العلم بمعنى واحد .
الثاني : أنه ليس كذلك .
أما القول الأول فيمكن تقريره من وجهين :
الوجه الأول : أن تجعل
الشهادة عبارة عن الإخبار المقرون بالعلم ، فهذا المعنى مفهوم واحد وهو حاصل في حق الله تعالى ، وفي حق الملائكة ، وفي حق أولي العلم ، أما من الله تعالى فقد أخبر في القرآن عن كونه واحدا لا إله معه ، وقد بينا أن التمسك بالدلالة السمعية في هذه المسألة جائز ، وأما من الملائكة وأولي العلم فكلهم أخبروا أيضا أن الله تعالى واحد لا شريك له ، فثبت على هذا التقرير أن المفهوم من الشهادة معنى واحد في حق الله ، وفي حق الملائكة ، وفي حق أولي العلم .
[ ص: 178 ] الوجه الثاني : أن نجعل الشهادة عبارة عن الإظهار والبيان ، ثم نقول : إنه تعالى أظهر ذلك وبينه بأن خلق ما يدل على ذلك ، أما الملائكة وأولو العلم فقد أظهروا ذلك ، وبينوه بتقرير الدلائل والبراهين ، أما الملائكة فقد بينوا ذلك للرسل عليهم الصلاة والسلام ، والرسل للعلماء ، والعلماء لعامة الخلق ، فالتفاوت إنما وقع في الشيء الذي به حصل الإظهار والبيان ، فالمفهوم الإظهار والبيان فهو مفهوم واحد في حق الله سبحانه وتعالى ، وفي حق أولي العلم ، فظهر أن المفهوم من الشهادة واحد على هذين الوجهين ، والمقصود من ذلك كأنه يقول للرسول صلى الله عليه وسلم : إن
وحدانية الله تعالى أمر قد ثبت بشهادة الله تعالى ، وشهادة جميع المعتبرين من خلقه ، ومثل هذا الدين المتين والمنهج القويم ، لا يضعف بخلاف بعض الجهال من
النصارى وعبدة الأوثان ، فاثبت أنت وقومك يا
محمد على ذلك فإنه هو الإسلام والدين عند الله هو الإسلام .
القول الثاني : قول من يقول : شهادة الله تعالى على توحيده ، عبارة عن أنه خلق الدلائل الدالة على توحيده ، وشهادة الملائكة وأولي العلم عبارة عن إقرارهم بذلك ، ولما كان كل واحد من هذين الأمرين يسمى شهادة ، لم يبعد أن يجمع بين الكل في اللفظ ، ونظيره قوله تعالى : (
إن الله وملائكته يصلون على النبي ياأيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما ) [ الأحزاب : 56 ] ومعلوم أن الصلاة من الله غير الصلاة من الملائكة ، ومن الملائكة غير الصلاة من الناس ، مع أنه قد جمعهم في اللفظ .
فإن قيل : المدعي للوحدانية هو الله ، فكيف يكون المدعي شاهدا ؟
الجواب : من وجوه :
الأول : وهو أن الشاهد الحقيقي ليس إلا الله وذلك لأنه تعالى هو الذي خلق الأشياء وجعلها دلائل على توحيده ، ولولا تلك الدلائل لما صحت الشهادة ، ثم بعد ذلك نصب تلك الدلائل هو الذي وفق العلماء لمعرفة تلك الدلائل ، ولولا تلك الدلائل التي نصبها الله تعالى وهدى إليها لعجزوا عن التوصل بها إلى معرفة التوحيد ، وإذا كان الأمر كذلك كان الشاهد على الوحدانية ليس إلا الله وحده ، ولهذا قال : (
قل أي شيء أكبر شهادة قل الله ) [ الأنعام : 19 ] .
الوجه الثاني في الجواب : أنه هو الموجود أزلا وأبدا ، وكل ما سواه فقد كان في الأزل عدما صرفا ، ونفيا محضا ، والعدم يشبه الغائب ، والموجود يشبه الحاضر ، فكل ما سواه فقد كان غائبا ، وبشهادة الحق صار شاهدا ، فكان الحق شاهدا على الكل ، فلهذا قال : (
شهد الله أنه لا إله إلا هو ) .
الوجه الثالث : أن هذا وإن كان في صورة الشهادة ، إلا أنه في معنى الإقرار ، لأنه لما أخبر أنه لا إله سواه ، كان الكل عبيدا له ، والمولى الكريم لا يليق به أن لا يخل بمصالح العبيد ، فكان هذا الكلام جاريا مجرى الإقرار بأنه يجب وجوب الكريم عليه أن يصلح جهات جميع الخلق .
الوجه الرابع في الجواب : قرأ
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس " شهد الله إنه لا إله إلا هو " بكسر " إنه " ثم قرأ " أن الدين عند الله الإسلام " بفتح " أن " فعلى هذا يكون المعنى : شهد الله أن الدين عند الله الإسلام ويكون قوله " إنه لا إله إلا هو " اعتراضا في الكلام ، واعلم أن هذا الجواب لا يعتمد عليه ، لأن هذه القراءة غير مقبولة عند العلماء ، وبتقدير أن تكون مقبولة لكن القراءة الأولى متفق عليها ، فالإشكال الوارد عليها لا يندفع بسبب القراءة الأخرى .
[ ص: 179 ] المسألة الثانية : المراد من (
وأولو العلم ) في هذه الآية الذين عرفوا وحدانيته بالدلائل القاطعة لأن الشهادة إنما تكون مقبولة ، إذا كان الإخبار مقرونا بالعلم ، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم : "
إذا علمت مثل الشمس فاشهد " وهذا يدل على أن هذه
الدرجة العالية والمرتبة الشريفة ليست إلا لعلماء الأصول .