المسألة الرابعة : ( الملك ) هو القدرة ، والمالك هو القادر ، فقوله : (
مالك الملك ) معناه القادر على القدرة ، والمعنى إن
قدرة الخلق على كل ما يقدرون عليه ليست إلا بإقدار الله تعالى فهو الذي يقدر كل قادر على مقدوره ، ويملك كل مالك مملوكه ، قال صاحب " الكشاف " مالك الملك " أي يملك جنس الملك فيتصرف فيه تصرف الملاك فيما يملكون ، واعلم أنه تعالى لما بين كونه ( مالك الملك ) على الإطلاق ، فصل بعد ذلك وذكر أنواعا خمسة :
النوع الأول : قوله تعالى : (
تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء ) وذكروا فيه وجوها :
الأول : المراد منه : ملك النبوة والرسالة ، كما قال تعالى : (
فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما ) [ النساء : 54 ]
والنبوة أعظم مراتب الملك ؛ لأن
العلماء لهم أمر عظيم على بواطن الخلق ، والجبابرة لهم أمر على ظواهر الخلق ، والأنبياء أمرهم نافذ في البواطن والظواهر ، فأما على البواطن فلأنه يجب على كل أحد أن يقبل دينهم وشريعتهم ، وأن يعتقد أنه هو الحق ، وأما على الظواهر فلأنهم لو تمردوا واستكبروا لاستوجبوا القتل ، ومما يؤكد هذا التأويل أن بعضهم كان يستبعد أن يجعل الله تعالى بشرا رسولا فحكى الله عنهم قولهم : [
أبعث الله بشرا رسولا ) [ الإسراء : 94 ] وقال الله تعالى : (
ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا ] [ الأنعام : 9 ] وقوم آخرون جوزوا من الله تعالى أن يرسل رسولا من البشر ، إلا أنهم كانوا يقولون : إن
محمدا فقير يتيم ، فكيف يليق به هذا المنصب العظيم على ما حكى الله عنهم أنهم قالوا : (
لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم ) [ الزخرف : 31 ] وأما
اليهود فكانوا يقولون النبوة كانت في آبائنا وأسلافنا ، وأما
قريش فهم ما كانوا أهل النبوة والكتاب فكيف يليق النبوة
بمحمد - صلى الله عليه وسلم - ؟ وأما المنافقون فكانوا يحسدونه على النبوة ، على ما حكى الله ذلك عنهم في قوله : (
أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله ) [ النساء : 54 ] .
وأيضا فقد ذكرنا في تفسير قوله تعالى : (
قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد ) [ آل عمران : 12] أن
اليهود تكبروا على النبي - صلى الله عليه وسلم - بكثرة عددهم وسلاحهم وشدتهم ، ثم إنه تعالى رد على جميع هؤلاء الطوائف بأن بين أنه سبحانه هو مالك الملك فيؤتي ملكه من يشاء ، فقال : (
تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء ) .
فإن قيل : فإذا حملتم قوله : (
تؤتي الملك من تشاء ) على إيتاء ملك النبوة ، وجب أن تحملوا قوله : (
وتنزع الملك ممن تشاء ) على أنه قد يعزل عن النبوة من جعله نبيا ، ومعلوم أن ذلك لا يجوز .
قلنا : الجواب من وجهين :
الأول : أن الله تعالى إذا جعل النبوة في نسل رجل ، فإذا أخرجها الله من نسله ، وشرف بها إنسانا آخر من غير ذلك النسل ، صح أن يقال إنه تعالى نزعها منهم ،
واليهود كانوا معتقدين أن النبوة لا بد وأن تكون في بني إسرائيل ، فلما شرف الله تعالى
محمدا - صلى الله عليه وسلم - بها ، صح أن يقال : إنه ينزع ملك النبوة من بني إسرائيل إلى العرب .
والجواب الثاني : أن يكون المراد من قوله : (
وتنزع الملك ممن تشاء ) أي تحرمهم ولا تعطيهم هذا
[ ص: 6 ] الملك لا على معنى أنه يسلبه ذلك بعد أن أعطاه ، ونظيره قوله تعالى : (
الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور ) [البقرة : 257] مع أن هذا الكلام يتناول من لم يكن في ظلمة الكفر قط ، وقال الله تعالى مخبرا عن الكفار أنهم قالوا للأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - : (
أو لتعودن في ملتنا ) [ الأعراف : 88 ] وأولئك الأنبياء قالوا : (
وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ) [ الأعراف : 89 ] مع أنهم ما كانوا فيها قط ، فهذا جملة الكلام في تقرير قول من فسر قوله تعالى : (
تؤتي الملك من تشاء ) بملك النبوة .
القول الثاني : أن يكون
المراد من الملك ، ما يسمى ملكا في العرف ، وهو عبارة عن مجموع أشياء :
أحدها : تكثير المال والجاه ، أما تكثير المال فيدخل فيه ملك الصامت والناطق والدور والضياع ، والحرث ، والنسل ، وأما تكثير الجاه فهو أن يكون مهيبا عن الناس ، مقبول القول ، مطاعا في الخلق .
والثاني : أن يكون بحيث يجب على غيره أن يكون في طاعته ، وتحت أمره ونهيه .
والثالث : أن يكون بحيث لو نازعه في ملكه أحد ، قدر على قهر ذلك المنازع ، وعلى غلبته ، ومعلوم أن كل ذلك لا يحصل إلا من الله تعالى ، أما تكثير المال فقد نرى جمعا في غاية الكياسة لا يحصل لهم مع الكد الشديد ، والعناء العظيم قليل من المال ، ونرى الأبله الغافل قد يحصل له من الأموال ما لا يعلم كميته ، وأما الجاه فالأمر أظهر ، فإنا رأينا كثيرا من الملوك بذلوا الأموال العظيمة لأجل الجاه ، وكانوا كل يوم أكثر حقارة ومهانة في أعين الرعية ، وقد يكون على العكس من ذلك وهو أن يكون الإنسان معظما في العقائد ، مهيبا في القلوب ، ينقاد له الصغير والكبير ، ويتواضع له القاصي والداني ،
وأما القسم الثاني : وهو كونه واجب الطاعة ، فمعلوم أن هذا تشريف يشرف الله تعالى به بعض عباده .
وأما القسم الثالث : وهو حصول النصرة والظفر معلوم أن ذلك مما لا يحصل إلا من الله تعالى ، فكم شاهدنا من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله ، وعند هذا يظهر بالبرهان العقلي صحة ما ذكره الله تعالى من قوله : (
تؤتي الملك من تشاء ) .
واعلم أن
للمعتزلة هاهنا بحثا قال
الكعبي قوله : (
تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء ) ليس على سبيل المختارية ، ولكن بالاستحقاق فيؤتيه من يقوم به ، ولا ينزعه إلا ممن فسق عن أمر ربه ، ويدل عليه قوله : (
لا ينال عهدي الظالمين ) [ البقرة : 124 ] وقال في حق العبد الصالح : (
إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم ) [البقرة : 247 ] فجعله سببا للملك ، وقال
الجبائي : هذا الحكم مختص بملوك العدل ، فأما ملوك الظلم فلا يجوز أن يكون ملكهم بإيتاء الله ، وكيف يصح أن يكون ذلك بإيتاء الله ، وقد ألزمهم أن لا يتملكوه ومنعهم من ذلك ، فصح بما ذكرنا أن الملوك العادلين هم المختصون بأن الله تعالى آتاهم ذلك الملك ، فأما الظالمون فلا ، قالوا : ونظير هذا ما قلناه في الرزق : أنه لا يدخل تحته الحرام الذي زجره الله عن الانتفاع به ، وأمره بأن يرده على مالكه فكذا هاهنا ، قالوا : وأما النزع فبخلاف ذلك لأنه كما ينزع الملك من الملوك العادلين لمصلحة تقتضي ذلك فقد ينزع الملك عن الملوك الظالمين
ونزع الملك يكون بوجوه :
منها بالموت ، وإزالة العقل ، وإزالة القوى ، والقدرة والحواس ، ومنها بورود الهلاك والتلف عن الأموال ، ومنها أن يأمر الله تعالى المحق بأن يسلب الملك الذي في يد المتغلب المبطل ، ويؤتيه القوة والنصرة ، فإذا حاربه المحق وقهره وسلب ملكه جاز أن يضاف هذا السلب والنزع إليه تعالى ، لأنه وقع عن أمره ، وعلى هذا الوجه نزع الله تعالى ملك
فارس على يد الرسول ، هذا جملة كلام
المعتزلة في هذا الباب .
[ ص: 7 ] واعلم أن هذا الموضع مقام بحث مهم وذلك لأن حصول الملك للظالم ، إما أن يقال : إنه وقع لا عن فاعل وإنما حصل بفعل ذلك المتغلب ، أو إنما حصل بالأسباب الربانية ، والأول : نفي للصانع ، والثاني : باطل لأن كل أحد يريد تحصيل الملك والدولة لنفسه ، ولا يتيسر له البتة ، فلم يبق إلا أن يقال بأن ملك الظالمين إنما حصل بإيتاء الله تعالى ، وهذا الكلام ظاهر ، ومما يؤكد ذلك أن الرجل قد يكون بحيث تهابه النفوس ، وتميل إليه القلوب ، ويكون النصر قرينا له ، والظفر جليسا معه ، فأينما توجه حصل مقصوده ، وقد يكون على الضد من ذلك ، ومن تأمل في كيفية أحوال الملوك اضطر إلى العلم بأن ذلك ليس إلا بتقدير الله تعالى ، ولذلك قال حكيم الشعراء :
لو كان بالحيل الغنى لوجدتني بأجل أسباب السماء تعلقي
لكن من رزق الحجا حرم الغنى
ضدان مفترقان أي تفرق
ومن الدليل على القضاء وكونه
بؤس اللبيب وطيب عيش الأحمق
والقول الثاني : أن قوله : (
تؤتي الملك من تشاء ) محمول على جميع
أنواع الملك فيدخل فيه ملك النبوة ، وملك العلم ، وملك العقل والصحة والأخلاق الحسنة ، وملك النفاذ والقدرة وملك المحبة ، وملك الأموال ، وذلك لأن اللفظ عام فالتخصيص من غير دليل لا يجوز .