وأما قوله تعالى : (
وتعز من تشاء وتذل من تشاء ) فاعلم أن
العزة قد تكون في الدين ، وقد تكون في الدنيا ، أما في الدين
فأشرف أنواع العزة الإيمان قال الله تعالى : (
ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ) [المنافقون : 8 ] إذا ثبت هذا فنقول : لما كان أعز الأشياء الموجبة للعزة هو الإيمان ،
وأذل الأشياء الموجبة للمذلة هو الكفر ، فلو كان حصول الإيمان والكفر بمجرد مشيئة العبد ، لكان إعزاز العبد نفسه بالإيمان ، وإذلاله نفسه بالكفر ، أعظم من إعزاز الله عبده بكل ما أعزه به ، ومن إذلال الله عبده بكل ما أذله به ولو كان الأمر كذلك لكان حظ العبد من هذا الوصف أتم وأكمل من حظ الله تعالى منه ، ومعلوم أن ذلك باطل قطعا ، فعلمنا أن الإعزاز بالإيمان والحق ليس إلا من الله ، والإذلال بالكفر والباطل ليس إلا من الله ، وهذا وجه قوي في المسألة ، قال القاضي :
الإعزاز المضاف إليه تعالى قد يكون في الدين وقد يكون في الدنيا ، أما الذي في الدين فهو أن الثواب لا بد وأن يكون مشتملا على التعظيم والمدح والكرامة في الدنيا والآخرة ، وأيضا فإنه تعالى يمدهم بمزيد الألطاف ويعليهم على الأعداء بحسب المصلحة ، وأما ما يتعلق بالدنيا فبإعطاء الأموال الكثيرة من الناطق والصامت وتكثير الحرث وتكثير النتاج في الدواب ، وإلقاء الهيبة في قلوب الخلق .
واعلم أن كلامنا يأبى ذلك لأن كل ما يفعله الله تعالى من التعظيم في باب الثواب فهو حق واجب على الله تعالى ولو لم يفعله لانعزل عن الإلهية ولخرج عن كونه إلها للخلق فهو تعالى بإعطاء هذه التعظيمات يحفظ إلهية نفسه عن الزوال ، فأما العبد فلما خص نفسه بالإيمان الذي يوجب هذه التعظيمات فهو الذي أعز نفسه فكان إعزازه لنفسه أعظم من إعزاز الله تعالى إياه ، فعلمنا أن هذا الكلام المذكور لازم على القوم .
أما قوله : (
وتذل من تشاء ) فقال
الجبائي في تفسيره : إنه تعالى إنما يذل أعداءه في الدنيا والآخرة ولا يذل أحدا من أوليائه وإن أفقرهم وأمرضهم وأحوجهم إلى غيرهم ؛ لأنه تعالى إنما يفعل هذه الأشياء ليعزهم في الآخرة ، إما بالثواب وإما بالعوض ، فصار ذلك كالفصد والحجامة فإنهما وإن كانا يؤلمان في الحال إلا
[ ص: 8 ] أنهما لما كانا يستعقبان نفعا عظيما لا جرم لا يقال فيهما : إنهما تعذيب ، قال وإذا وصف الفقر بأنه ذل فعلى وجه المجاز كما سمى الله تعالى لين المؤمنين ذلا بقوله : (
أذلة على المؤمنين ) [المائدة : 54 ] .
إذا عرفت هذا فنقول : إذلال الله تعالى عبده المبطل إنما يكون بوجوه منها بالذم واللعن ومنها بأن يخذلهم بالحجة والنصرة ، ومنها بأن يجعلهم خولا لأهل دينه ، ويجعل مالهم غنيمة لهم ومنها بالعقوبة لهم في الآخرة ، هذا جملة كلام
المعتزلة ، ومذهبنا أنه تعالى يعز البعض بالإيمان والمعرفة ، ويذل البعض بالكفر والضلالة ، وأعظم أنواع الإعزاز والإذلال هو هذا والذي يدل عليه وجوه .
الأول : وهو أن
عز الإسلام وذل الكفر لا بد فيه من فاعل ، وذلك الفاعل إما أن يكون هو العبد أو الله تعالى ، والأول باطل ؛ لأن أحدا لا يختار الكفر لنفسه ، بل إنما يريد الإيمان والمعرفة والهداية فلما أراد العبد الإيمان ولم يحصل له بل حصل له الجهل ، علمنا أن حصوله من الله تعالى لا من العبد .
الثاني : وهو أن الجهل الذي يحصل للعبد إما أن يكون بواسطة شبهة وإما أن يقال : يفعله العبد ابتداء ، والأول باطل ، إذ لو كان كل جهل إنما يحصل بجهل آخر يسبقه ويتقدمه ؛ لزم التسلسل وهو محال ، فبقي أن يقال : تلك الجهات تنتهي إلى جهل يفعله العبد ابتداء من غير سبق موجب البتة ، لكنا نجد من أنفسنا أن العاقل لا يرضى لنفسه أن يصير على الجهل ابتداء من غير موجب ، فعلمنا أن ذلك بإذلال الله عبده وبخذلانه إياه .
الثالث : ما بينا أن الفعل لا بد فيه من الداعي والمرجح ، وذلك المرجح يكون من الله تعالى فإن كان في طرف الخير كان إعزازا ، وإن كان في طرف الجهل والشر والضلالة كان إذلالا ، فثبت أن المعز والمذل هو الله تعالى .