(
قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم )
قوله تعالى : (
قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم )
اعلم أنه تعالى لما دعا القوم إلى الإيمان به ، والإيمان برسله على سبيل التهديد والوعيد ، دعاهم إلى ذلك من طريق آخر وهو أن
اليهود كانوا يقولون (
نحن أبناء الله وأحباؤه ) [المائدة : 18 ] فنزلت هذه الآية ، ويروى
أنه - صلى الله عليه وسلم - وقف على قريش وهم في المسجد الحرام يسجدون للأصنام فقال : يا معشر قريش والله لقد خالفتم ملة إبراهيم ، فقالت قريش : إنما نعبد هذه حبا لله تعالى؛ ليقربونا إلى الله زلفى ، فنزلت هذه الآية ، ويروى أن
النصارى قالوا : إنما نعظم المسيح حبا لله ، فنزلت هذه الآية ، وبالجملة فكل واحد من فرق العقلاء يدعي أنه يحب الله ، ويطلب رضاه وطاعته ، فقال لرسوله - صلى الله عليه وسلم - : قل إن كنتم صادقين في ادعاء محبة الله تعالى فكونوا منقادين لأوامره محترزين عن مخالفته ، وتقدير الكلام : أن
من كان محبا لله تعالى لا بد وأن يكون في غاية الحذر مما يوجب سخطه ،
وإذا قامت الدلالة القاطعة على نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - وجبت متابعته ، فإن لم تحصل هذه المتابعة دل ذلك على أن تلك المحبة ما حصلت .
وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : أما الكلام المستقصى في المحبة ، فقد تقدم في تفسير قوله تعالى : (
والذين آمنوا أشد حبا لله ) [البقرة : 165 ] والمتكلمون مصرون على أن
محبة الله تعالى عبارة عن محبة إعظامه وإجلاله ، أو محبة طاعته ، أو محبة ثوابه ، قالوا : لأن المحبة من جنس الإرادة ، والإرادة لا تعلق لها إلا بالحوادث وإلا بالمنافع .
واعلم أن هذا القول ضعيف ، وذلك لأنه لا يمكن أن يقال في كل شيء إنه إنما كان محبوبا لأجل معنى آخر وإلا لزم التسلسل والدور ، فلا بد من الانتهاء إلى شيء يكون محبوبا بالذات ، كما أنا نعلم أن اللذة محبوبة لذاتها ، فكذلك نعلم أن الكمال محبوب لذاته ، وكذلك أنا إذا سمعنا أخبار
رستم واسفنديار في شجاعتهما مال القلب إليهما مع أنا نقطع بأنه لا فائدة لنا في ذلك الميل ، بل ربما نعتقد أن تلك المحبة معصية لا يجوز لنا أن نصر عليها ، فعلمنا أن
الكمال محبوب لذاته ، كما أن اللذة محبوبة لذاتها ، وكمال الكمال لله سبحانه وتعالى ، فكان ذلك يقتضي كونه محبوبا لذاته من ذاته ومن المقربين عنده الذين تجلى لهم أثر من آثار كماله وجلاله .
قال المتكلمون : وأما محبة الله تعالى للعبد فهي عبارة عن إرادته تعالى إيصال الخيرات والمنافع في الدين والدنيا إليه .
المسألة الثانية : القوم كانوا يدعون أنهم كانوا محبين لله تعالى ، وكانوا يظهرون الرغبة في أن يحبهم الله تعالى ، والآية مشتملة على أن الإلزام من وجهين :
أحدهما : إن كنتم تحبون الله فاتبعوني ، لأن المعجزات دلت على أنه تعالى أوجب عليكم متابعتي . الثاني : إن كنتم تحبون أن يحبكم الله فاتبعوني لأنكم
[ ص: 17 ] إذا اتبعتموني فقد أطعتم الله ، والله تعالى يحب كل من أطاعه ، وأيضا فليس في متابعتي إلا أني دعوتكم إلى طاعة الله تعالى وتعظيمه وترك تعظيم غيره ، ومن أحب الله كان راغبا فيه ، لأن
المحبة توجب الإقبال بالكلية على المحبوب ، والإعراض بالكلية عن غير المحبوب .
المسألة الثالثة : خاض صاحب الكشاف في هذا المقام في الطعن في أولياء الله تعالى وكتب هاهنا ما لا يليق بالعاقل أن يكتب مثله في كتب الفحش ، فهب أنه اجترأ على الطعن في أولياء الله تعالى فكيف اجترأ على كتبه مثل ذلك الكلام الفاحش في تفسير كلام الله تعالى ، نسأل الله العصمة والهداية ، ثم قال تعالى : (
ويغفر لكم ذنوبكم )
والمراد من محبة الله تعالى له إعطاؤه الثواب ، ومن غفران ذنبه إزالة العقاب ، وهذا غاية ما يطلبه كل عاقل ، ثم قال : (
والله غفور رحيم ) يعني غفور في الدنيا يستر على العبد أنواع المعاصي رحيم في الآخرة بفضله وكرمه .