القصة الأولى
واقعة حنة أم مريم -عليهما السلام - (
إذ قالت امرأة عمران رب إني نذرت لك ما في بطني محررا فتقبل مني إنك أنت السميع العليم فلما وضعتها قالت رب إني وضعتها أنثى والله أعلم بما وضعت وليس الذكر كالأنثى وإني سميتها مريم وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم فتقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتا حسنا وكفلها زكريا كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا قال يا مريم أنى لك هذا قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب )
[ ص: 22 ] قوله تعالى : (
إذ قالت امرأة عمران رب إني نذرت لك ما في بطني محررا فتقبل مني إنك أنت السميع العليم فلما وضعتها قالت رب إني وضعتها أنثى والله أعلم بما وضعت وليس الذكر كالأنثى وإني سميتها مريم وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم فتقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتا حسنا وكفلها زكريا كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا قال يامريم أنى لك هذا قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب ) .
وفيه مسائل :
المسألة الأولى : في موضع " إذ " من الإعراب أقوال : الأول : قال
أبو عبيدة : إنها زائدة لغوا، والمعنى : قالت
امرأة عمران ، ولا موضع لها من الإعراب، قال
الزجاج : لم يصنع
أبو عبيدة في هذا شيئا، لأنه لا يجوز
إلغاء حرف من كتاب الله تعالى، ولا يجوز حذف حرف من كتاب الله تعالى من غير ضرورة .
والثاني : قال
الأخفش nindex.php?page=showalam&ids=15153والمبرد : التقدير اذكر " إذ قالت
امرأة عمران " ومثله في كتاب الله تعالى كثير. الثالث : قال
الزجاج ، التقدير :
واصطفى آل عمران على العالمين إذ قالت
امرأة عمران ، وطعن
nindex.php?page=showalam&ids=12590ابن الأنباري فيه وقال : إن الله تعالى قرن اصطفاء
آل عمران باصطفاء
آدم ونوح ، ولما كان اصطفاؤه تعالى
آدم ونوحا قبل قول
امرأة عمران استحال أن يقال : إن هذا الاصطفاء مقيد بذلك الوقت الذي قالت
امرأة عمران هذا الكلام فيه، ويمكن أن يجاب عنه بأن أثر اصطفاء كل واحد إنما ظهر عند وجوده، وظهور طاعاته ، فجاز أن يقال : إن الله اصطفى
آدم عند وجوده،
ونوحا عند وجوده،
وآل عمران عندما قالت
امرأة عمران هذا الكلام .
الرابع : قال بعضهم : هذا متعلق بما قبله ، والتقدير : والله سميع عليم إذ قالت
امرأة عمران هذا القول .
فإن قيل : إن الله سميع عليم قبل أن قالت المرأة هذا القول، فما معنى هذا التقييد ؟
قلنا : إن سمعه تعالى لذلك الكلام مقيد بوجود ذلك الكلام ، وعلمه تعالى بأنها تذكر ذلك مقيد بذكرها لذلك ، والتغير في العلم والسمع إنما يقع في النسب والمتعلقات .
المسألة الثانية : أن
زكريا بن آذن ،
وعمران بن ماثان ، كانا في عصر واحد ،
وامرأة عمران حنة بنت فاقوذ ، وقد تزوج
زكريا بابنته
إيشاع أخت مريم ،
وكان يحيى وعيسى -عليهما السلام - ابني خالة ، ثم في كيفية هذا النذر روايات :
الرواية الأولى : قال
عكرمة : إنها كانت عاقرا لا تلد، وكانت تغبط النساء بالأولاد، ثم
قالت : اللهم إن لك علي نذرا إن رزقتني ولدا أن أتصدق به على بيت المقدس ليكون من سدنته .
والرواية الثانية : قال
nindex.php?page=showalam&ids=13114محمد بن إسحاق : إن
أم مريم ما كان يحصل لها ولد حتى شاخت ، وكانت يوما في ظل شجرة فرأت طائرا يطعم فرخا له فتحركت نفسها للولد ، فدعت ربها أن يهب لها ولدا فحملت
بمريم ، وهلك
عمران ، فلما عرفت جعلته لله محررا ، أي خادما للمسجد، قال
nindex.php?page=showalam&ids=14102الحسن البصري : إنها إنما فعلت ذلك بإلهام من الله ولولاه ما فعلت كما رأى
إبراهيم ذبح ابنه في المنام فعلم أن ذلك أمر من الله وإن لم يكن عن وحي ، وكما ألهم الله
أم موسى فقذفته في اليم وليس بوحي .
[ ص: 23 ]
المسألة الثالثة : المحرر الذي يجعل حرا خالصا، يقال : حررت العبد إذا خلصته عن الرق، وحررت الكتاب إذا أصلحته وخلصته فلم تبق فيه شيئا من وجوه الغلط، ورجل حر إذا كان خالصا لنفسه ليس لأحد عليه تعلق ، والطين الحر الخالص عن الرمل والحجارة والحمأة والعيوب .
أما التفسير فقيل مخلصا للعبادة عن
nindex.php?page=showalam&ids=14577الشعبي ، وقيل : خادما للبيعة ، وقيل : عتيقا من أمر الدنيا لطاعة الله ، وقيل : خادما لمن يدرس الكتاب ، ويعلم في البيع ، والمعنى أنها نذرت أن تجعل ذلك الولد وقفا على طاعة الله ، قال
الأصم : لم يكن
لبني إسرائيل غنيمة ولا سبي ، فكان تحريرهم جعلهم أولادهم على الصفة التي ذكرنا ، وذلك لأنه كان الأمر في دينهم أن الولد إذا صار بحيث يمكن استخدامه كان يجب عليه خدمة الأبوين ، فكانوا بالنذر يتركون ذلك النوع من الانتفاع ، ويجعلونهم محررين لخدمة المسجد وطاعة الله تعالى ، وقيل : كان المحرر يجعل في الكنيسة يقوم بخدمتها حتى يبلغ الحلم ، ثم يخير بين المقام والذهاب ، فإن أبى المقام وأراد أن يذهب ذهب ، وإن اختار المقام فليس له بعد ذلك خيار ، ولم يكن نبي إلا ومن نسله محرر في
بيت المقدس .
المسألة الرابعة : هذا التحرير لم يكن جائزا إلا في الغلمان أما الجارية فكانت لا تصلح لذلك لما يصيبها من الحيض ، والأذى ، ثم إن حنة نذرت مطلقا إما لأنها بنت الأمر على التقدير ، أو لأنها جعلت ذلك النذر وسيلة إلى طلب الذكر .
المسألة الخامسة : في انتصاب قوله : ( محررا ) وجهان : الأول : أنه نصب على الحال من " ما " وتقديره : نذرت لك الذي في بطني محررا . والثاني : وهو قول
nindex.php?page=showalam&ids=13436ابن قتيبة أن المعنى نذرت لك أن أجعل ما في بطني محررا .
ثم قال الله تعالى حاكيا عنها : (
فتقبل مني إنك أنت السميع العليم ) التقبل : أخذ الشيء على الرضا ، قال
الواحدي : وأصله من المقابلة لأنه يقبل بالجزاء ، وهذا كلام من لا يريد بما فعله إلا الطلب لرضا الله تعالى ، والإخلاص في عبادته ، ثم قال : (
إنك أنت السميع العليم ) والمعنى : إنك أنت السميع لتضرعي ودعائي وندائي ، العليم بما في ضميري وقلبي ونيتي .
واعلم أن هذا النوع من النذر كان في شرع
بني إسرائيل وغير موجود في شرعنا ، والشرائع لا يمتنع اختلافها في مثل هذه الأحكام .
قال تعالى : (
فلما وضعتها ) واعلم أن هذا الضمير إما أن يكون عائدا إلى الأنثى التي كانت في بطنها وكان عالما بأنها كانت أنثى أو يقال : إنها عادت إلى النفس والنسمة أو يقال : عادت إلى المنذورة .
ثم قال تعالى : (
قالت رب إني وضعتها أنثى ) واعلم أن الفائدة في هذا الكلام أنه تقدم منها
النذر في تحرير ما في بطنها ، وكان الغالب على ظنها أنه ذكر فلم تشترط ذلك في كلامها ، وكانت العادة عندهم أن الذي يحرر ويفرغ لخدمة المسجد وطاعة الله هو الذكر دون الأنثى فقالت : (
رب إني وضعتها أنثى ) خائفة أن نذرها لم يقع الموقع الذي يعتمد به ومعتذرة من إطلاقها النذر المتقدم فذكرت ذلك لا على سبيل الإعلام لله
[ ص: 24 ] تعالى ، تعالى الله عن أن يحتاج إلى إعلامها ، بل ذكرت ذلك على سبيل الاعتذار .
ثم قال الله تعالى : (
والله أعلم بما وضعت ) قرأ
أبو بكر عن
عاصم وابن عامر " وضعت " برفع التاء على تقدير أنها حكاية كلامها ، والفائدة في هذا الكلام أنها لما قالت : (
إني وضعتها أنثى ) خافت أن يظن بها أنها تخبر الله تعالى ، فأزالت الشبهة بقولها : (
والله أعلم بما وضعت ) وثبت أنها إنما قالت ذلك للاعتذار لا للإعلام ، والباقون بالجزم على أنه كلام الله ، وعلى هذه القراءة يكون المعنى أنه تعالى قال : والله أعلم بما وضعت تعظيما لولدها ، وتجهيلا لها بقدر ذلك الولد ، ومعناه : والله أعلم بالشيء الذي وضعت وبما علق به من عظائم الأمور ، وأن يجعله وولده آية للعالمين ، وهي جاهلة بذلك لا تعلم منه شيئا فلذلك تحسرت وفي قراءة
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس " والله أعلم بما وضعت " على خطاب الله لها ، أي : إنك لا تعلمين قدر هذا الموهوب والله هو العالم بما فيه من العجائب والآيات .
ثم قال تعالى حكاية عنها : (
وليس الذكر كالأنثى ) وفيه قولان : الأول : أن مرادها
تفضيل الولد الذكر على الأنثى ، وسبب هذا التفضيل من وجوه .
أحدها : أن شرعهم أنه لا يجوز تحرير الذكور دون الإناث .
والثاني : أن الذكر يصح أن يستمر على خدمة موضع العبادة ، ولا يصح ذلك في الأنثى لمكان الحيض وسائر عوارض النسوان .
والثالث : الذكر يصلح لقوته وشدته للخدمة دون الأنثى فإنها ضعيفة لا تقوى على الخدمة .
والرابع : أن الذكر لا يلحقه عيب في الخدمة والاختلاط بالناس وليس كذلك الأنثى .
والخامس : أن الذكر لا يلحقه من التهمة عند الاختلاط ما يلحق الأنثى فهذه الوجوه تقتضي فضل الذكر على الأنثى في هذا المعنى .
والقول الثاني : أن المقصود من هذا الكلام ترجيح هذه الأنثى على الذكر ، كأنها قالت : الذكر مطلوبي وهذه الأنثى موهوبة الله تعالى ، وليس الذكر الذي يكون مطلوبي كالأنثى التي هي موهوبة لله ، وهذا الكلام يدل على أن تلك المرأة كانت مستغرقة في معرفة جلال الله ، عالمة بأن ما يفعله الرب بالعبد خير مما يريده العبد لنفسه .