أما قوله تعالى : (
ويكلم الناس في المهد وكهلا ) ففيه مسائل :
المسألة الأولى : الواو للعطف على قوله : " وجيها " والتقدير كأنه قال : وجيها ومكلما للناس وهذا عندي ضعيف ؛ لأن عطف الجملة الفعلية على الاسمية غير جائز إلا للضرورة أو الفائدة ، والأولى أن يقال تقدير الآية (
إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم ) [آل عمران : 45] : الوجيه في الدنيا والآخرة المعدود من المقربين ، وهذا المجموع جملة واحدة ، ثم قال : (
ويكلم الناس ) فقوله : (
ويكلم الناس ) عطف على قوله : (
إن الله يبشرك ) .
المسألة الثانية : في المهد قولان :
أحدهما : أنه حجر أمه .
والثاني : هو هذا الشيء المعروف الذي هو مضجع الصبي وقت الرضاع ، وكيف كان فالمراد منه : فإنه يكلم الناس في الحالة التي يحتاج الصبي فيها إلى المهد ، ولا يختلف هذا المقصود سواء كان في حجر أمه أو كان في المهد .
المسألة الثالثة : قوله : ( وكهلا ) عطف على الظرف من قوله : (
في المهد ) كأنه قيل : يكلم الناس صغيرا وكهلا وهاهنا سؤالات :
السؤال الأول : ما الكهل ؟ .
[ ص: 46 ] الجواب : الكهل في اللغة ما اجتمع قوته وكمل شبابه ، وهو مأخوذ من قول العرب اكتهل النبات إذا قوي وتم قال
الأعشى :
يضاحك الشمس منها كوكب شرق مؤزر بعميم النبت مكتهل
أراد بالمكتهل المتناهي في الحسن والكمال .
السؤال الثاني : أن
تكلمه حال كونه في المهد من المعجزات ، فأما تكلمه حال الكهولة فليس من المعجزات ، فما الفائدة في ذكره ؟ .
والجواب : من وجوه :
الأول : أن المراد منه بيان كونه متقلبا في الأحوال من الصبا إلى الكهولة ، والتغير على الإله تعالى محال ، والمراد منه الرد على وفد
نجران في قولهم : إن
عيسى كان إلها .
والثاني : المراد منه أن يكلم الناس مرة واحدة في المهد لإظهار طهارة أمه ، ثم عند الكهولة يتكلم بالوحي والنبوة . والثالث : قال
أبو مسلم : معناه أنه يكلم حال كونه في المهد ، وحال كونه كهلا على حد واحد وصفة واحدة وذلك لا شك أنه غاية في المعجز . الرابع : قال
الأصم : المراد منه أنه يبلغ حال الكهولة .
السؤال الثالث : نقل أن
عمر عيسى - عليه السلام - إلى أن رفع كان ثلاثا وثلاثين سنة وستة أشهر ، وعلى هذا التقدير : فهو ما بلغ الكهولة .
والجواب : من وجهين :
الأول : بينا أن الكهل في أصل اللغة عبارة عن الكامل التام ، وأكمل أحوال الإنسان إذا كان بين الثلاثين والأربعين فصح وصفه بكونه كهلا في هذا الوقت .
والثاني : هو قول
nindex.php?page=showalam&ids=14127الحسين بن الفضل البجلي : أن المراد بقوله : ( وكهلا ) أن يكون كهلا بعد أن ينزل من السماء في آخر الزمان ، ويكلم الناس ، ويقتل الدجال ، قال
nindex.php?page=showalam&ids=14127الحسين بن الفضل : وفي هذه الآية نص في أنه عليه الصلاة والسلام سينزل إلى الأرض .
المسألة الرابعة : أنكرت
النصارى كلام المسيح - عليه السلام - في المهد ، واحتجوا على صحة قولهم بأن كلامه في المهد من أعجب الأمور وأغربها ، ولا شك أن هذه الواقعة لو وقعت لوجب أن يكون وقوعها في حضور الجمع العظيم الذي يحصل القطع واليقين بقولهم ؛ لأن تخصيص مثل هذا المعجز بالواحد والاثنين لا يجوز ، ومتى حدثت الواقعة العجيبة جدا عند حضور الجمع العظيم فلا بد وأن تتوفر الدواعي على النقل فيصير ذلك بالغا حد التواتر ، وإخفاء ما يكون بالغا إلى حد التواتر ممتنع ، وأيضا فلو كان ذلك لكان ذلك الإخفاء هاهنا ممتنعا ؛ لأن
النصارى بالغوا في إفراط محبته إلى حيث قالوا إنه كان إلها ، ومن كان كذلك يمتنع أن يسعى في إخفاء مناقبه وفضائله بل ربما يجعل الواحد ألفا ، فثبت أن لو كانت هذه الواقعة موجودة لكان أولى الناس بمعرفتها
النصارى ، ولما أطبقوا على إنكارها علمنا أنه ما كان موجودا البتة .
أجاب المتكلمون عن هذه الشبهة ، وقالوا : إن كلام
عيسى - عليه السلام - في المهد إنما كان للدلالة على براءة حال
مريم - عليها السلام - من الفاحشة ، وكان الحاضرون جمعا قليلين ، فالسامعون لذلك الكلام ، كان جمعا قليلا ، ولا يبعد في مثله التواطؤ على الإخفاء ، وبتقدير : أن يذكروا ذلك إلا أن
اليهود كانوا يكذبونهم في ذلك وينسبونهم إلى البهت ، فهم أيضا قد سكتوا لهذه العلة فلأجل هذه الأسباب بقي الأمر
[ ص: 47 ] مكتوما مخفيا إلى أن أخبر الله سبحانه وتعالى
محمدا - صلى الله عليه وسلم - بذلك ، وأيضا فليس كل
النصارى ينكرون ذلك ، فإنه نقل عن
nindex.php?page=showalam&ids=315جعفر بن أبي طالب : لما قرأ على
nindex.php?page=showalam&ids=888النجاشي سورة مريم ، قال
nindex.php?page=showalam&ids=888النجاشي : لا تفاوت بين واقعة
عيسى ، وبين المذكور في هذا الكلام بذرة .
ثم قال تعالى : (
ومن الصالحين ) .
فإن قيل : كون
عيسى كلمة من الله تعالى ، وكونه (
وجيها في الدنيا والآخرة ) وكونه من المقربين عند الله تعالى ، وكونه مكلما للناس في المهد وفي الكهولة ، كل واحد من هذه الصفات أعظم وأشرف من كونه صالحا ،
فلم ختم الله تعالى أوصاف عيسى بقوله : ( ومن الصالحين ) ؟ .
قلنا : إنه لا رتبة أعظم من كون المرء صالحا ؛ لأنه لا يكون كذلك إلا ويكون في جميع الأفعال والتروك مواظبا على النهج الأصلح ، والطريق الأكمل ، ومعلوم أن ذلك يتناول جميع المقامات في الدنيا والدين في أفعال القلوب ، وفي أفعال الجوارح ، فلما ذكر الله تعالى بعض التفاصيل أردفه بهذا الكلام الذي يدل على أرفع الدرجات .