أما قوله : (
ثم إلي مرجعكم فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون ) فالمعنى أنه تعالى بشر
عيسى - عليه السلام - بأنه يعطيه في الدنيا تلك الخواص الشريفة ، والدرجات الرفيعة العالية ، وأما في القيامة فإنه يحكم بين المؤمنين به ، وبين الجاحدين برسالته ، وكيفية ذلك الحكم ما ذكره في الآية التي بعد هذه الآية ، وبقي من مباحث هذه الآية موضع مشكل وهو أن نص القرآن دل على أنه تعالى حين رفعه ألقى شبهه على غيره على ما قال : (
وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم ) [ النساء : 157 ] ، والأخبار أيضا واردة بذلك إلا أن الروايات اختلفت ، فتارة يروى أن الله تعالى ألقى شبهه على بعض الأعداء الذين دلوا
اليهود على مكانه حتى قتلوه وصلبوه ، وتارة يروى أنه - عليه السلام - رغب بعض خواص أصحابه في أن يلقى شبهه عليه حتى يقتل مكانه ، وبالجملة فكيفما كان
ففي إلقاء شبهه على الغير إشكالات :
الإشكال الأول : أنا لو جوزنا إلقاء شبه إنسان على إنسان آخر لزم السفسطة ، فإني إذا رأيت ولدي ثم رأيته ثانيا فحينئذ أجوز أن يكون هذا الذي رأيته ثانيا ليس بولدي ، بل هو إنسان ألقي شبهه عليه وحينئذ يرتفع الأمان على المحسوسات ، وأيضا فالصحابة الذين رأوا
محمدا - صلى الله عليه وسلم - يأمرهم وينهاهم وجب أن لا يعرفوا أنه
محمد لاحتمال أنه ألقي شبهه على غيره وذلك يفضي إلى سقوط الشرائع ، وأيضا فمدار الأمر في الأخبار المتواترة على أن يكون المخبر الأول إنما أخبر عن المحسوس ، فإذا جاز وقوع الغلط في المبصرات كان سقوط خبر المتواتر أولى وبالجملة ففتح هذا الباب أوله سفسطة ، وآخره إبطال النبوات بالكلية .
والإشكال الثاني : وهو أن الله تعالى كان قد أمر
جبريل - عليه السلام - بأن يكون معه في أكثر الأحوال ، هكذا قاله المفسرون في تفسير قوله : (
إذ أيدتك بروح القدس ) [ المائدة : 110 ] ثم إن طرف جناح واحد من أجنحة
جبريل - عليه السلام - كان يكفي العالم من البشر فكيف لم يكف في منع أولئك
اليهود عنه ؟ وأيضا أنه - عليه السلام - لما كان قادرا على إحياء الموتى ، وإبراء الأكمه والأبرص ، فكيف لم يقدر على إماتة أولئك
اليهود الذين قصدوه بالسوء وعلى إسقامهم وإلقاء الزمانة والفلج عليهم حتى يصيروا عاجزين عن التعرض له ؟
والإشكال الثالث : أنه تعالى كان قادرا على تخليصه من أولئك الأعداء بأن يرفعه إلى السماء فما الفائدة في إلقاء شبهه على غيره ، وهل فيه إلا إلقاء مسكين في القتل من غير فائدة إليه ؟
والإشكال الرابع : أنه إذا ألقي شبهه على غيره ثم إنه رفع بعد ذلك إلى السماء فالقوم اعتقدوا فيه أنه
[ ص: 63 ] هو
عيسى مع أنه ما كان
عيسى ، فهذا كان إلقاء لهم في الجهل والتلبيس ، وهذا لا يليق بحكمة الله تعالى .
والإشكال الخامس : أن
النصارى على كثرتهم في مشارق الأرض ومغاربها وشدة محبتهم
للمسيح عليه السلام ، وغلوهم في أمره ، أخبروا أنهم شاهدوه مقتولا مصلوبا ، فلو أنكرنا ذلك كان طعنا فيما ثبت بالتواتر ، والطعن في التواتر يوجب الطعن في نبوة
محمد - صلى الله عليه وسلم ، ونبوة
عيسى ، بل في وجودهما ، ووجود سائر الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - وكل ذلك باطل .
والإشكال السادس : أنه ثبت بالتواتر أن المصلوب بقي حيا زمانا طويلا ، فلو لم يكن ذلك
عيسى بل كان غيره لأظهر الجزع ، ولقال : إني لست
بعيسى بل إنما أنا غيره ، ولبالغ في تعريف هذا المعنى ، ولو ذكر ذلك لاشتهر عند الخلق هذا المعنى ، فلما لم يوجد شيء من هذا علمنا أن ليس الأمر على ما ذكرتم ، فهذا جملة ما في الموضع من السؤالات .
والجواب عن الأول : أن كل من أثبت القادر المختار ، سلم أنه تعالى قادر على أن يخلق إنسانا آخر على صورة زيد مثلا ، ثم إن هذا التصوير لا يوجب الشك المذكور ، فكذا القول فيما ذكرتم .
والجواب عن الثاني : أن
جبريل - عليه السلام - لو دفع الأعداء عنه أو أقدر الله تعالى
عيسى - عليه السلام - على دفع الأعداء عن نفسه لبلغت معجزته إلى حد الإلجاء ، وذلك غير جائز .
وهذا هو الجواب عن الإشكال الثالث ، فإنه تعالى لو رفعه إلى السماء وما ألقى شبهه على الغير لبلغت تلك المعجزة إلى حد الإلجاء .
والجواب عن الرابع : أن تلامذة
عيسى كانوا حاضرين ، وكانوا عالمين بكيفية الواقعة ، وهم كانوا يزيلون ذلك التلبيس .
والجواب عن الخامس : أن الحاضرين في ذلك الوقت كانوا قليلين ودخول الشبهة على الجمع القليل جائز والتواتر إذا انتهى في آخر الأمر إلى الجمع القليل لم يكن مفيدا للعلم .
والجواب عن السادس : أن بتقدير أن يكون الذي ألقي شبه
عيسى - عليه السلام - عليه كان مسلما وقبل ذلك عن
عيسى جائز أن يسكت عن تعريف حقيقة الحال في تلك الواقعة ، وبالجملة فالأسئلة التي ذكروها أمور تتطرق الاحتمالات إليها من بعض الوجوه ، ولما ثبت بالمعجز القاطع صدق
محمد - صلى الله عليه وسلم - في كل ما أخبر عنه امتنع صيرورة هذه الأسئلة المحتملة معارضة للنص القاطع ، والله ولي الهداية .