(
يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده أفلا تعقلون )
قوله تعالى : (
ياأهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده أفلا تعقلون )
اعلم أن
اليهود كانوا يقولون : إن
إبراهيم كان على ديننا ،
والنصارى كانوا يقولون : كان
إبراهيم على ديننا ، فأبطل الله عليهم ذلك بأن التوراة والإنجيل ما أنزلا إلا من بعده ، فكيف يعقل أن يكون يهوديا أو نصرانيا ؟
فإن قيل : فهذا أيضا لازم عليكم لأنكم تقولون : إن
إبراهيم كان على دين الإسلام ، والإسلام إنما أنزل بعده بزمان طويل ، فإن قلتم : إن المراد أن
إبراهيم كان في أصول الدين على المذهب الذي عليه المسلمون الآن ، فنقول : فلم لا يجوز أيضا أن
تقول اليهود : إن إبراهيم كان يهوديا بمعنى أنه كان على الدين الذي عليه
[ ص: 78 ] اليهود ،
وتقول النصارى إن إبراهيم كان نصرانيا بمعنى أنه كان على الدين الذي عليه
النصارى ، فكون التوراة والإنجيل نازلين بعد
إبراهيم لا ينافي كونه يهوديا أو نصرانيا بهذا التفسير ، كما أن كون القرآن نازلا بعده لا ينافي كونه مسلما .
والجواب : أن
القرآن أخبر أن إبراهيم كان حنيفا مسلما ، وليس في التوراة والإنجيل أن إبراهيم كان يهوديا أو نصرانيا ، فظهر الفرق ، ثم نقول : أما أن
النصارى ليسوا على ملة
إبراهيم ، فالأمر فيه ظاهر ؛ لأن المسيح ما كان موجودا في زمن
إبراهيم ، فما كانت عبادته مشروعة في زمن
إبراهيم لا محالة ، فكان الاشتغال بعبادة المسيح مخالفة لملة
إبراهيم لا محالة ، وأما أن
اليهود ليسوا على ملة
إبراهيم ، فذلك لأنه لا شك أنه كان لله سبحانه وتعالى تكاليف على الخلق قبل مجيء
موسى عليه السلام ، ولا شك أن الموصل لتلك التكاليف إلى الخلق واحد من البشر ، ولا شك أن ذلك الإنسان قد كان مؤيدا بالمعجزات ، وإلا لم يجب على الخلق قبول تلك التكاليف منه فإذن قد كان قبل مجيء
موسى أنبياء ، وكانت لهم شرائع معينة ، فإذا جاء
موسى فإما أن يقال إنه جاء بتقرير تلك الشرائع أو بغيرهما ، فإن جاء بتقريرها لم يكن
موسى صاحب تلك الشريعة ، بل كان كالفقيه المقرر لشرع من قبله ،
واليهود لا يرضون بذلك ، وإن كان قد جاء بشرع آخر سوى شرع من تقدمه فقد قال بالنسخ ، فثبت أنه لا بد وأن يكون
دين كل الأنبياء جواز القول بالنسخ واليهود ينكرون ذلك ، فثبت أن
اليهود ليسوا على ملة
إبراهيم ، فبطل قول
اليهود والنصارى بأن
إبراهيم كان يهوديا أو نصرانيا ، فهذا هو المراد من الآية والله أعلم .