ثم قال تعالى : (
أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم أو يحاجوكم عند ربكم ) .
واعلم أن هذه الآية من المشكلات الصعبة ، فنقول هذا إما أن يكون من جملة كلام الله تعالى أو يكون من جملة كلام اليهود ، ومن تتمة قولهم : ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم ، وقد ذهب إلى كل واحد من هذين الاحتمالين قوم من المفسرين :
أما الاحتمال الأول : ففيه وجوه :
الأول : قرأ
ابن كثير "أن يؤتى" بمد الألف على الاستفهام ، والباقون بفتح الألف من غير مد ولا استفهام ، فإن أخذنا بقراءة
ابن كثير ، فالوجه ظاهر وذلك لأن هذه اللفظة موضوعة للتوبيخ ، كقوله تعالى : (
أن كان ذا مال وبنين إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين ) [ القلم : 14 ،15 ] ، والمعنى أمن أجل أن يؤتى أحد شرائع مثل ما أوتيتم من الشرائع ينكرون اتباعه ؟ ثم حذف الجواب للاختصار ، وهذا الحذف كثير ، يقول الرجل بعد طول العتاب لصاحبه ، وتعديده عليه ذنوبه بعد كثرة إحسانه إليه : أمن قلة إحساني إليك ؟ أمن إهانتي لك ؟ والمعنى أمن أجل هذا فعلت ما فعلت ؟ ونظيره قوله تعالى : (
أم من هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه ) [ الزمر : 9 ] ، وهذا الوجه مروي عن
nindex.php?page=showalam&ids=16879مجاهد وعيسى بن عمر ، أما قراءة من قرأ بقصر الألف من ( أن ) فقد يمكن أيضا حملها على معنى الاستفهام كما قرئ : (
سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم ) [ البقرة : 6 ] بالمد والقصر ، وكذا قوله : (
أن كان ذا مال وبنين ) [ القلم : 14 ] قرئ بالمد والقصر ، وقال
امرؤ القيس :
[ ص: 86 ] تروح من الحي أم تبتكر ؟ وماذا عليك ولم تنتظر
أراد أتروح من الحي ؟ فحذف ألف الاستفهام ، وإذا ثبت أن هذه القراءة محتملة لمعنى الاستفهام كان التقدير ما شرحناه في القراءة الأولى .
الوجه الثاني : أن أولئك لما قالوا لأتباعهم : لا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم أمر الله تعالى نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يقول لهم : (
إن الهدى هدى الله ) فلا تنكروا (
أن يؤتى أحد ) سواكم من الهدى (
مثل ما أوتيتم ) و (
أو يحاجوكم ) يعني هؤلاء المسلمين بذلك (
عند ربكم ) إن لم تقبلوا ذلك منهم ، أقصى ما في الباب أنه يفتقر في هذا التأويل إلى إضمار قوله : فلا تنكروا ؛ لأن عليه دليلا وهو قوله : (
إن الهدى هدى الله ) ، فإنه لما كان الهدى هدى الله كان له تعالى أن يؤتيه من يشاء من عباده ، ومتى كان كذلك لزم ترك الإنكار .
الوجه الثالث : أن الهدى اسم للبيان ، كقوله تعالى : (
وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى ) [ فصلت : 17 ] ، فقوله (
إن الهدى ) مبتدأ ، وقوله : (
هدى الله ) بدل منه ، وقوله : (
أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم ) خبر بإضمار حرف لا ، والتقدير : قل يا
محمد لا شك أن بيان الله هو أن لا يؤتى أحد مثل ما أوتيتم ، وهو دين الإسلام الذي هو أفضل الأديان ، وأن لا يحاجوكم يعني هؤلاء
اليهود عند ربكم في الآخرة ؛ لأنه يظهر لهم في الآخرة أنكم محقون وأنهم مضلون ، وهذا التأويل ليس فيه إلا أنه لا بد من إضمار حرف ( لا ) ، وهو جائز كما في قوله تعالى : (
أن تضلوا ) أي أن لا تضلوا .
الوجه الرابع : " الهدى " اسم و (
هدى الله ) بدل منه ، و (
أن يؤتى أحد ) خبره ، والتقدير : إن هدى الله هو أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم ، وعلى هذا التأويل فقوله : (
أو يحاجوكم عند ربكم ) لا بد فيه من إضمار ، والتقدير : أو يحاجوكم عند ربكم فيقضى لكم عليهم ، والمعنى : أن الهدى هو ما هديتكم به من دين الإسلام الذي من حاجكم به عندي قضيت لكم عليه ، وفي قوله (
عند ربكم ) ما يدل على هذا الإضمار ؛ ولأن حكمه بكونه ربا لهم يدل على كونه راضيا عنهم ، وذلك مشعر بأنه يحكم لهم ولا يحكم عليهم .
والاحتمال الثاني : أن يكون قوله : (
أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم ) من تتمة كلام
اليهود ، وفيه تقديم وتأخير ، والتقدير : ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم أو يحاجوكم عند ربكم ، قل إن الهدى هدى الله ، وإن الفضل بيد الله .
قالوا : والمعنى لا تظهروا إيمانكم بأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم إلا لأهل دينكم ، وأسروا تصديقكم بأن المسلمين قد أوتوا من كتب الله مثل ما أوتيتم ، ولا تفشوه إلا إلى أشياعكم وحدهم دون المسلمين ؛ لئلا يزيدهم ثباتا ودون المشركين لئلا يدعوهم ذلك إلى الإسلام .
أما قوله : (
أو يحاجوكم عند ربكم ) فهو عطف على " أن يؤتى " ، والضمير في يحاجوكم لأحد ؛ لأنه في معنى الجمع بمعنى ولا تؤمنوا لغير أتباعكم ، إن المسلمين يحاجونكم يوم القيامة بالحق ويغالبونكم عند الله بالحجة ، وعندي أن هذا التفسير ضعيف ، وبيانه من وجوه :
الأول : أن جد القوم في حفظ أتباعهم عن قبول دين
محمد - عليه السلام - كان أعظم من جدهم في حفظ غير أتباعهم وأشياعهم عنه ، فكيف يليق أن يوصي بعضهم بعضا بالإقرار بما يدل على صحة دين
محمد - صلى الله عليه وسلم - عند أتباعهم وأشياعهم ، وأن يمتنعوا من ذلك عند الأجانب ؟ هذا في غاية البعد .
الثاني : أن على هذا التقدير يختل النظم ويقع فيه تقديم وتأخير لا يليق بكلام الفصحاء .
والثالث : أن على هذا التقدير لا بد من الحذف ، فإن التقدير : قل إن الهدى هدى الله وإن الفضل
[ ص: 87 ] بيد الله ، ولا بد من حذف " قل " في قوله : (
قل إن الفضل بيد الله ) .
الرابع : أنه كيف وقع قوله : (
قل إن الهدى هدى الله ) فيما بين جزأي كلام واحد ؟ فإن هذا في غاية البعد عن الكلام المستقيم ، قال
القفال : يحتمل أن يكون قوله : (
قل إن الهدى هدى الله ) كلاما أمر الله نبيه أن يقوله عند انتهاء الحكاية عن
اليهود إلى هذا الموضع ؛ لأنه لما حكى عنهم في هذا الموضع قولا باطلا لا جرم أدب رسوله - صلى الله عليه وسلم - بأن يقابله بقول حق ، ثم يعود إلى حكاية تمام كلامهم كما
إذا حكى المسلم عن بعض الكفار قولا فيه كفر ، فيقول عند بلوغه إلى تلك الكلمة : آمنت بالله ، أو يقول : لا إله إلا الله ، أو يقول : تعالى الله ، ثم يعود إلى تمام الحكاية فيكون قوله تعالى : (
قل إن الهدى هدى الله ) من هذا الباب ، ثم أتى بعده بتمام قول
اليهود إلى قوله : (
أو يحاجوكم عند ربكم ) ثم أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بمحاجتهم في هذا وتنبيههم على بطلان قولهم ، فقيل له : (
قل إن الفضل بيد الله ) إلى آخر الآية .
الإشكال الخامس في هذه الوجوه :
أن الإيمان إذا كان بمعنى التصديق لا يتعدى إلى المصدق بحرف اللام ، لا يقال صدقت لزيد ، بل يقال : صدقت زيدا ، فكان ينبغي أن يقال : ولا تؤمنوا إلا من تبع دينكم ، وعلى هذا التقدير يحتاج إلى حذف اللام في قوله : (
لمن تبع دينكم ) ويحتاج إلى إضمار الباء أو ما يجري مجراه في قوله : (
أن يؤتى ) لأن التقدير : ولا تصدقوا إلا من تبع دينكم بأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم ، فقد اجتمع في هذا التفسير الحذف والإضمار وسوء النظم وفساد المعنى ، قال
أبو علي الفارسي : لا يبعد أن يحمل الإيمان على الإقرار فيكون المعنى : ولا تقروا بأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم إلا لمن تبع دينكم ، وعلى هذا التقدير لا تكون اللام زائدة ، لكن لا بد من إضمار حرف الباء أو ما يجري مجراه على كل حال ، فهذا محصل ما قيل في تفسير هذه الآية والله أعلم بمراده .