ثم قال تعالى : (
قل إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم ) .
واعلم أنه تعالى حكى عن
اليهود أمرين : أحدهما : أن يؤمنوا وجه النهار ويكفروا آخره ، ليصير ذلك شبهة للمسلمين في صحة الإسلام .
فأجاب عنه بقوله : (
قل إن الهدى هدى الله ) ، والمعنى : أن مع كمال هداية الله وقوة بيانه لا يكون لهذه الشبهة الركيكة قوة ولا أثر .
والثاني : أنه حكى عنهم أنهم استنكروا أن يؤتى أحد مثل ما أوتوا من الكتاب والحكم والنبوة .
فأجاب عنه بقوله : (
قل إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء ) ، والمراد بالفضل الرسالة ، وهو في اللغة عبارة عن الزيادة ، وأكثر ما يستعمل في زيادة الإحسان ، والفاضل الزائد على غيره في خصال الخير ، ثم كثر استعمال الفضل لكل نفع قصد به فاعله الإحسان إلى الغير ، وقوله (
بيد الله ) أي إنه مالك له قادر عليه ، وقوله : (
يؤتيه من يشاء ) أي هو تفضل موقوف على مشيئته ، وهذا يدل على أن
النبوة تحصل بالتفضل لا بالاستحقاق ؛ لأنه تعالى جعلها من باب الفضل الذي لفاعله أن يفعله وأن لا يفعله ، ولا يصح ذلك في المستحق إلا على وجه المجاز ، وقوله : (
والله واسع عليم ) مؤكد لهذا المعنى ؛ لأن كونه واسعا ، يدل على كمال القدرة ، وكونه عليما على كمال العلم ، فيصح منه لمكان القدرة أن يتفضل على أي عبد شاء بأي تفضل شاء ، ويصح منه لمكان كمال العلم أن لا يكون شيء من أفعاله إلا على وجه الحكمة والصواب .
[ ص: 88 ] ثم قال : (
يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم ) وهذا كالتأكيد لما تقدم ، والفرق بين هذه الآية وبين ما قبلها أن الفضل عبارة عن الزيادة ، ثم إن الزيادة من جنس المزيد عليه ، فبين بقوله : (
إن الفضل بيد الله ) أنه قادر على أن يؤتي بعض عباده مثل ما آتاهم من المناصب العالية ويزيد عليها من جنسها ، ثم قال : (
يختص برحمته من يشاء ) والرحمة المضافة إلى الله سبحانه أمر أعلى من ذلك الفضل ، فإن هذه الرحمة ربما بلغت في الشرف وعلو الرتبة إلى أن لا تكون من جنس ما آتاهم ، بل تكون أعلى وأجل من أن تقاس إلى ما آتاهم ، ويحصل من مجموع الآيتين أنه لا نهاية لمراتب
إعزاز الله وإكرامه لعباده ، وأن قصر إنعامه وإكرامه على مراتب معينة ، وعلى أشخاص معينين جهل بكمال الله في القدرة والحكمة .