(
إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا لن تقبل توبتهم وأولئك هم الضالون )
قوله تعالى : (
إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا لن تقبل توبتهم وأولئك هم الضالون ) وفي الآية مسألتان :
المسألة الأولى : اختلفوا
فيما به يزداد الكفر ، والضابط أن المرتد يكون فاعلا للزيادة بأن يقيم ويصر فيكون الإصرار كالزيادة ، وقد يكون فاعلا للزيادة بأن يضم إلى ذلك الكفر كفرا آخر ، وعلى هذا التقدير الثاني ذكروا فيه وجوها :
الأول : أن
أهل الكتاب كانوا مؤمنين
بمحمد - عليه الصلاة والسلام - قبل مبعثه ، ثم كفروا به عند المبعث ، ثم ازدادوا كفرا بسبب طعنهم فيه في كل وقت ، ونقضهم ميثاقه ، وفتنتهم للمؤمنين ، وإنكارهم لكل معجزة تظهر .
الثاني : أن
اليهود كانوا مؤمنين
بموسى عليه السلام ، ثم كفروا بسبب إنكارهم
عيسى والإنجيل ، ثم ازدادوا كفرا بسبب إنكارهم
محمدا - عليه الصلاة والسلام - والقرآن .
والثالث : أن الآية نزلت في الذين ارتدوا وذهبوا إلى
مكة ، وازديادهم الكفر أنهم قالوا : نقيم
بمكة نتربص
بمحمد - صلى الله عليه وسلم - ريب المنون .
الرابع : المراد فرقة ارتدوا ، ثم عزموا على الرجوع إلى الإسلام على سبيل النفاق ، فسمى الله تعالى ذلك النفاق كفرا .
المسألة الثانية : أنه تعالى حكم في الآية الأولى بقبول توبة المرتدين ، وحكم في هذه الآية بعدم قبولها وهو يوهم التناقض ، وأيضا ثبت بالدليل أنه متى وجدت التوبة بشروطها فإنها تكون مقبولة لا محالة ، فلهذا اختلف المفسرون في تفسير قوله تعالى : (
لن تقبل توبتهم ) على وجوه :
الأول : قال
الحسن وقتادة وعطاء : السبب أنهم لا يتوبون إلا عند حضور الموت والله تعالى يقول : (
وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن ) [ النساء : 18 ] . الثاني : أن يحمل هذا على ما إذا تابوا باللسان ولم يحصل في قلوبهم إخلاص . الثالث : قال القاضي
والقفال nindex.php?page=showalam&ids=12590وابن الأنباري : إنه تعالى لما قدم ذكر من كفر بعد الإيمان وبين أنه أهل اللعنة إلا أن يتوب ، ذكر في هذه الآية أنه لو كفر مرة أخرى بعد تلك التوبة فإن التوبة الأولى تصير غير مقبولة وتصير كأنها لم تكن ، قال : وهذا الوجه أليق بالآية من سائر الوجوه ؛ لأن التقدير : إلا الذين تابوا وأصلحوا فإن الله غفور رحيم ، فإن كانوا كذلك ثم ازدادوا كفرا لن تقبل توبتهم .
الرابع : قال صاحب " الكشاف " : قوله : (
لن تقبل توبتهم ) جعل كناية عن الموت على الكفر؛ لأن
الذي لا تقبل توبته من الكفار هو الذي يموت على الكفر ، كأنه قيل إن
اليهود والمرتدين الذين فعلوا ما فعلوا مائتون على الكفر داخلون في جملة من لا تقبل توبتهم .
الخامس : لعل المراد ما إذا تابوا عن تلك الزيادة فقط ، فإن التوبة عن تلك الزيادة لا تصير مقبولة ما لم تحصل التوبة عن الأصل .
[ ص: 115 ] وأقول : جملة هذه الجوابات إنما تتمشى على ما إذا حملنا قوله : (
إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا ) على المعهود السابق لا على الاستغراق وإلا فكم من مرتد تاب عن ارتداده توبة صحيحة مقرونة بالإخلاص في زمان التكليف ، فأما الجواب الذي حكيناه عن
القفال والقاضي فهو جواب مطرد سواء حملنا اللفظ على المعهود السابق أو على الاستغراق .
أما قوله : (
وأولئك هم الضالون ) ففيه سؤالان : الأول : (
وأولئك هم الضالون ) ينفي كون غيرهم ضالا ، وليس الأمر كذلك ، فإن كل كافر فهو ضال سواء كفر بعد الإيمان أو كان كافرا في الأصل . والجواب : هذا محمول على أنهم هم الضالون على سبيل الكمال .
السؤال الثاني : وصفهم أولا بالتمادي على الكفر والغلو فيه ، والكفر أقبح أنواع الضلال ، والوصف إنما يراد للمبالغة ، والمبالغة إنما تحصل بوصف الشيء بما هو أقوى حالا منه لا بما هو أضعف حالا منه .
والجواب : قد ذكرنا أن المراد أنهم الضالون على سبيل الكمال ، وعلى هذا التقدير تحصل المبالغة .