[ ص: 117 ]
(
لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون )
قوله تعالى : (
لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون )
اعلم أنه تعالى لما بين أن الإنفاق لا ينفع الكافر البتة علم المؤمنين كيفية الإنفاق الذي ينتفعون به في الآخرة ، فقال : (
لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون ) ، وبين في هذه الآية أن
من أنفق مما أحب كان من جملة الأبرار ، ثم قال في آية أخرى : (
إن الأبرار لفي نعيم ) [ الانفطار : 13 ] ، وقال أيضا : (
إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا ) [ الإنسان : 5 ] ، وقال أيضا : (
إن الأبرار لفي نعيم على الأرائك ينظرون تعرف في وجوههم نضرة النعيم يسقون من رحيق مختوم ختامه مسك وفي ذلك فليتنافس المتنافسون ) [ المطففين : 22 - 26 ] ، وقال : (
ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ) [ البقرة : 177 ] ، فالله تعالى لما فصل في سائر الآيات كيفية ثواب الأبرار اكتفى هاهنا بأن ذكر أن من أنفق ما أحب نال البر ، وفيه لطيفة أخرى :
وهي أنه تعالى قال : (
ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة ) [ البقرة : 177 ] إلى آخر الآية ، فذكر في هذه الآية أكثر أعمال الخير ، وسماه البر ثم قال في هذه الآية : (
لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون ) ، والمعنى أنكم وإن أتيتم بكل تلك الخيرات المذكورة في تلك الآية فإنكم لا تفوزون بفضيلة البر حتى تنفقوا مما تحبون ، وهذا يدل على أن الإنسان إذا أنفق ما يحبه كان ذلك
أفضل الطاعات ، وهاهنا بحث وهو : أن لقائل أن يقول : كلمة " حتى " لانتهاء الغاية ، فقوله : (
لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون ) يقتضي أن من أنفق مما أحب فقد نال البر ومن نال البر دخل تحت الآيات الدالة على عظم الثواب للأبرار ، فهذا يقتضي أن من أنفق ما أحب وصل إلى الثواب العظيم وإن لم يأت بسائر الطاعات ، وهو باطل .
وجواب هذا الإشكال : أن الإنسان لا يمكنه أن ينفق محبوبه إلا إذا توسل بإنفاق ذلك المحبوب إلى وجدان محبوب أشرف من الأول ، فعلى هذا الإنسان لا يمكنه أن ينفق الدنيا في الدنيا إلا إذا تيقن سعادة الآخرة ، ولا يمكنه أن يعترف بسعادة الآخرة إلا إذا أقر بوجود الصانع العالم القادر ، وأقر بأنه يجب عليه الانقياد لتكاليفه وأوامره ونواهيه ، فإذا تأملت علمت أن الإنسان لا يمكنه إنفاق الدنيا في الدنيا إلا إذا كان مستجمعا لجميع الخصال المحمودة في الدنيا ، ولنرجع إلى التفسير ، فنقول في الآية مسائل :
المسألة الأولى :
كان السلف إذا أحبوا شيئا جعلوه لله ، روي أنه
nindex.php?page=hadith&LINKID=16012107لما نزلت هذه الآية ، قال أبو طلحة : يا رسول الله لي حائط بالمدينة وهو أحب أموالي إلي أفأتصدق به ؟ فقال عليه السلام : " بخ بخ ذاك مال رابح ، وإني أرى أن تجعلها في الأقربين " ، فقال أبو طلحة : أفعل يا رسول الله ، فقسمها في أقاربه ، ويروى أنه جعلها بين
nindex.php?page=showalam&ids=144حسان بن ثابت nindex.php?page=showalam&ids=34وأبي بن كعب رضي الله عنهما ،
وروي أن nindex.php?page=showalam&ids=138زيد بن حارثة - رضي الله عنه - جاء عند نزول هذه الآية بفرس له كان يحبه وجعله في سبيل الله ، فحمل عليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسامة ، فوجد زيد في نفسه ، فقال عليه السلام : " إن الله قد قبلها " ، واشترى
ابن عمر جارية أعجبته فأعتقها فقيل له : لم أعتقتها ولم تصب منها ؟ فقال : (
لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون ) .
المسألة الثانية : للمفسرين في
تفسير البر قولان : أحدهما : ما به يصيرون أبرارا حتى يدخلوا في قوله :
[ ص: 118 ] (
إن الأبرار لفي نعيم ) [ الانفطار : 13 ] ، فيكون المراد بالبر ما يحصل منهم من الأعمال المقبولة .
والثاني : الثواب والجنة ، فكأنه قال : لن تنالوا هذه المنزلة إلا بالإنفاق على هذا الوجه .
أما القائلون بالقول الأول ، فمنهم من قال : ( البر ) هو التقوى واحتج بقوله : (
ولكن البر من آمن بالله ) إلى قوله : (
أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون ) [ البقرة : 177 ] ، وقال
nindex.php?page=showalam&ids=1584أبو ذر : إن البر هو الخير ، وهو قريب مما تقدم .
وأما الذين قالوا : البر هو الجنة فمنهم من قال : (
لن تنالوا البر ) أي لن تنالوا ثواب البر ، ومنهم من قال : المراد بر الله أولياءه وإكرامه إياهم وتفضله عليهم ، وهو من قول الناس : برني فلان بكذا ، وبر فلان لا ينقطع عني ، وقال تعالى : (
لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ) إلى قوله : (
أن تبروهم ) [ الممتحنة : 8 ] .
المسألة الثالثة : اختلف المفسرون في قوله : (
مما تحبون ) منهم من قال : إنه نفس المال ، قال تعالى : (
وإنه لحب الخير لشديد ) [ العاديات : 8 ] ، ومنهم من قال : أن تكون الهبة رفيعة جيدة ، قال تعالى : (
ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ) [ البقرة : 267 ] ، ومنهم من قال : ما يكون محتاجا إليه قال تعالى : (
ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ) [ الإنسان : 8 ] أحد تفاسير الحب في هذه الآية على حاجتهم إليه ، وقال : (
ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ) [ الحشر : 9 ] ، وقال عليه السلام :
nindex.php?page=hadith&LINKID=16012109 " أفضل الصدقة ما تصدقت به وأنت صحيح شحيح تأمل العيش وتخشى الفقر " ، والأولى أن يقال : كل ذلك معتبر في باب الفضل وكثرة الثواب .