ثم قال تعالى : (
مباركا وهدى للعالمين ) .
واعلم أنه تعالى وصف هذا البيت بأنواع الفضائل . فأولها : أنه
أول بيت وضع للناس ، وقد ذكرنا معنى كونه أولا في الفضل ونزيد هاهنا وجوها أخر . الأول : قال
علي رضي الله عنه ، هو أول بيت خص بالبركة ، وبأن من دخله كان آمنا ، وقال
الحسن : هو أول مسجد عبد الله فيه في الأرض ، وقال
مطرف : أول بيت جعل قبلة . وثانيها : أنه تعالى وصفه بكونه مباركا ، وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : انتصب ( مباركا ) على الحال والتقدير الذي استقر هو
ببكة مباركا .
المسألة الثانية : البركة لها معنيان . أحدهما : النمو والتزايد . والثاني : البقاء والدوام ، يقال تبارك الله ، لثبوته لم يزل ، والبركة شبه الحوض لثبوت الماء فيها ، وبرك البعير إذا وضع صدره على الأرض وثبت واستقر ، فإن فسرنا البركة بالتزايد والنمو فهذا البيت مبارك من وجوه . أحدها : أن
الطاعات إذا أتي بها في هذا البيت ازداد ثوابها . قال صلى الله عليه وسلم : "
فضل المسجد الحرام على مسجدي ، كفضل مسجدي على سائر المساجد " ثم قال صلى الله عليه وسلم :
nindex.php?page=hadith&LINKID=16012118صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه " فهذا في الصلاة ، وأما الحج ، فقال عليه الصلاة والسلام : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=16012119من حج ولم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه " وفي حديث آخر "
nindex.php?page=hadith&LINKID=16012120الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة " ومعلوم أنه لا أكثر بركة مما يجلب المغفرة والرحمة . وثانيها : قال
القفال رحمه الله تعالى : ويجوز أن يكون بركته ما ذكر في قوله تعالى : (
يجبى إليه ثمرات كل شيء ) فيكون كقوله : (
إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله ) [ الإسراء : 1 ] . وثالثها : أن العاقل يجب أن يستحضر في ذهنه أن
الكعبة كالنقطة وليتصور أن صفوف المتوجهين إليها في الصلوات كالدوائر المحيطة بالمركز ، وليتأمل كم عدد الصفوف المحيطة بهذه الدائرة حال اشتغالهم بالصلاة ، ولا شك أنه يحصل فيما بين هؤلاء المصلين أشخاص أرواحهم علوية ، وقلوبهم قدسية وأسرارهم نورانية وضمائرهم ربانية ثم إن تلك الأرواح الصافية إذا توجهت إلى كعبة المعرفة وأجسادهم توجهت إلى هذه
الكعبة الحسية ، فمن كان في
الكعبة يتصل أنوار أرواح أولئك المتوجهين بنور روحه فتزداد الأنوار الإلهية في قلبه ، ويعظم لمعان الأضواء الروحانية في سره ، وهذا بحر عظيم ومقام شريف ، وهو ينبهك على معنى كونه مباركا .
وأما إن فسرنا البركة بالدوام فهو أيضا كذلك لأنه لا تنفك
الكعبة من الطائفين والعاكفين والركع السجود ، وأيضا الأرض كرة ، وإذا كان كذلك فكل وقت يمكن أن يفرض فهو صبح لقوم ، وظهر لثان وعصر لثالث ، ومغرب لرابع وعشاء لخامس ، ومتى كان الأمر كذلك لم تكن
الكعبة منفكة قط عن توجه قوم إليها من طرف من أطراف العالم لأداء فرض الصلاة ، فكان الدوام حاصلا من هذه الجهة ، وأيضا بقاء
الكعبة على هذه الحالة ألوفا من السنين دوام أيضا فثبت كونه مباركا من الوجهين .
الصفة الثالثة :
من صفات هذا البيت كونه ( وهدى للعالمين ) وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : قيل : المعنى أنه قبلة للعالمين يهتدون به إلى جهة صلاتهم ، وقيل : هدى للعالمين
[ ص: 131 ] أي دلالة على وجود الصانع المختار وصدق محمد صلى الله عليه وسلم في النبوة بما فيه من الآيات التي ذكرناها والعجائب التي حكيناها ، فإن كل ما يدل على النبوة فهو بعينه يدل أولا على وجود الصانع ، وجميع صفاته من العلم والقدرة والحكمة والاستغناء ، وقيل : هدى للعالمين إلى الجنة لأن من أدى الصلوات الواجبة إليها استوجب الجنة .
المسألة الثانية : قال
الزجاج : المعنى وذا هدى للعالمين ، قال : ويجوز أن يكون ( وهدى ) في موضع رفع على معنى وهو هدى .
أما قوله تعالى : (
فيه آيات بينات ) ففيه قولان . الأول : أن المراد ما ذكرناه من الآيات التي فيه وهي : أمن الخائف ، وانمحاق الجمار على كثرة الرمي ، وامتناع الطير من العلو عليه واستشفاء المريض به وتعجيل العقوبة لمن انتهك فيه حرمة ، وإهلاك
أصحاب الفيل لما قصدوا تخريبه ، فعلى هذا تفسير الآيات وبيانها غير مذكور .