ثم قال تعالى : (
وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها ) .
واعلم أنه تعالى لما شرح النعمة الدنيوية ذكر بعدها
النعمة الأخروية ، وهي ما ذكره في آخر هذه الآية ، وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : المعنى أنكم كنتم مشرفين بكفركم على جهنم ، لأن جهنم مشبهة بالحفرة التي فيها النار فجعل استحقاقهم للنار بكفرهم كالإشراف منهم على النار ، والمصير منهم إلى حفرتها ، فبين تعالى أنه أنقذهم من هذه الحفرة ، وقد قربوا من الوقوع فيها .
قالت
المعتزلة : ومعنى ذلك أنه تعالى لطف بهم بالرسول عليه السلام وسائر ألطافه حتى آمنوا . قال أصحابنا : جميع الألطاف مشترك فيه بين المؤمن والكافر ، فلو كان فاعل الإيمان وموجده هو العبد لكان العبد هو الذي أنقذ نفسه من النار ، والله تعالى حكم بأنه هو الذي أنقذهم من النار ، فدل هذا على أن
خالق أفعال العباد هو الله سبحانه وتعالى .
المسألة الثانية : شفا الشيء حرفه مقصور ، مثل شفا البئر والجمع الأشفاء ، ومنه يقال : أشفى على الشيء إذا أشرف عليه كأنه بلغ شفاه ، أي حده وحرفه ، وقوله : (
فأنقذكم منها ) قال
الأزهري : يقال نقذته وأنقذته واستنقذته ، أي خلصته ونجيته .
وفي قوله : (
فأنقذكم منها ) سؤال وهو : أنه تعالى إنما ينقذهم من الموضع الذي كانوا فيه وهم كانوا على شفا حفرة ، وشفا الحفرة مذكر فكيف قال منها ؟
وأجابوا عنه من وجوه . الأول : الضمير عائد إلى الحفرة ولما أنقذهم من الحفرة فقد أنقذهم من شفا الحفرة لأن شفاها منها . والثاني : أنها راجعة إلى النار ، لأن القصد الإنجاء من النار لا من شفا الحفرة ، وهذا قول
الزجاج . الثالث : أن شفا الحفرة ، وشفتها طرفها ، فجاز أن يخبر عنه بالتذكير والتأنيث .
المسألة الثالثة : أنهم لو ماتوا على الكفر لوقعوا في النار ، فمثلت حياتهم التي يتوقع بعدها الوقوع في النار بالقعود على حرفها ، وهذا فيه تنبيه على
تحقير مدة الحياة ، فإنه ليس بين الحياة وبين الموت المستلزم للوقوع في الحفرة إلا ما بين طرف الشيء ، وبين ذلك الشيء ، ثم قال : (
كذلك يبين الله ) الكاف في موضع نصب ، أي مثل البيان المذكور يبين الله لكم سائر الآيات لكي تهتدوا بها ، قال
الجبائي : الآية تدل على أنه تعالى يريد منهم الاهتداء ، أجاب
الواحدي عنه في " البسيط " فقال : بل المعنى لتكونوا على رجاء هداية .
وأقول : وهذا الجواب ضعيف لأن على هذا التقدير يلزم أن يريد الله منهم ذلك الرجاء ومن المعلوم أن على مذهبنا قد لا يريد ذلك الرجاء ، فالجواب الصحيح أن يقال كلمة ( لعل ) للترجي ، والمعنى أنا فعلنا فعلا يشبه فعل من يترجى ذلك والله أعلم .