ثم قال تعالى : (
ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات ) .
وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : في النظم وجهان . الأول : أنه تعالى ذكر في الآيات المتقدمة أنه بين في التوراة والإنجيل ما يدل على صحة دين الإسلام وصحة نبوة
محمد صلى الله عليه وسلم ، ثم ذكر أن
أهل الكتاب حسدوا محمدا صلى الله عليه وسلم واحتالوا في إلقاء الشكوك والشبهات في تلك النصوص الظاهرة ، ثم إنه تعالى أمر المؤمنين بالإيمان بالله والدعوة إلى الله ، ثم ختم ذلك بأن حذر المؤمنين من مثل فعل أهل الكتاب ، وهو إلقاء الشبهات في هذه النصوص واستخراج التأويلات الفاسدة الرافعة لدلالة هذه النصوص فقال : (
ولا تكونوا ) أيها المؤمنون عند سماع هذه البينات (
كالذين تفرقوا واختلفوا ) من أهل الكتاب (
من بعد ما جاءهم ) في التوراة والإنجيل تلك النصوص الظاهرة ، فعلى هذا الوجه تكون الآية من تتمة جملة الآيات المتقدمة . والثاني : وهو أنه تعالى لما أمر بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وذلك مما لا يتم إلا إذا كان الآمر بالمعروف قادرا على تنفيذ هذا التكليف على الظلمة والمتغالين ، ولا تحصل هذه القدرة إلا إذا حصلت الألفة والمحبة بين أهل الحق والدين ، لا جرم حذرهم تعالى من الفرقة والاختلاف لكي لا يصير ذلك سببا لعجزهم عن القيام بهذا التكليف ، وعلى هذا الوجه تكون هذه الآية من تتمة الآية السابقة فقط .
[ ص: 148 ] المسألة الثانية : قوله : (
تفرقوا واختلفوا ) فيه وجوه . الأول :
تفرقوا واختلفوا بسبب اتباع الهوى وطاعة النفس والحسد ، كما أن إبليس ترك نص الله تعالى بسبب حسده
لآدم . الثاني : تفرقوا حتى صار كل فريق منهم يصدق من الأنبياء بعضا دون بعض ، فصاروا بذلك إلى العداوة والفرقة . الثالث : صاروا مثل مبتدعة هذه الأمة ، مثل
المشبهة والقدرية والحشوية .
المسألة الثالثة : قال بعضهم (
تفرقوا واختلفوا ) معناهما واحد وذكرهما للتأكيد وقيل : بل معناهما مختلف ، ثم اختلفوا فقيل : تفرقوا بالعداوة واختلفوا في الدين ، وقيل : تفرقوا بسبب استخراج التأويلات الفاسدة من تلك النصوص ، ثم اختلفوا بأن حاول كل واحد منهم نصرة قوله ومذهبه . والثالث : تفرقوا بأبدانهم بأن صار كل واحد من أولئك الأحبار رئيسا في بلد ، ثم اختلفوا بأن صار كل واحد منهم يدعي أنه على الحق وأن صاحبه على الباطل ، وأقول : إنك إذا أنصفت علمت أن أكثر علماء هذا الزمان صاروا موصوفين بهذه الصفة فنسأل الله العفو والرحمة .
المسألة الرابعة : إنما قال : (
من بعد ما جاءهم البينات ) ولم يقل ( جاءتهم ) لجواز حذف علامة من الفعل إذا كان فعل المؤنث متقدما .
ثم قال تعالى : (
وأولئك لهم عذاب عظيم ) يعني
الذين تفرقوا لهم عذاب عظيم في الآخرة بسبب تفرقهم ، فكان ذلك زجرا للمؤمنين عن التفرق .