المسألة الرابعة :
المراد من حبل الله عهده ، وقد ذكرنا فيما تقدم أن العهد إنما سمي بالحبل لأن الإنسان لما كان قبل العهد خائفا ، صار ذلك الخوف مانعا له من الوصول إلى مطلوبه ، فإذا حصل العهد توصل بذلك العهد إلى الوصول إلى مطلوبه ، فصار ذلك شبيها بالحبل الذي من تمسك به تخلص من خوف الضرر .
فإن قيل : إنه عطف على حبل الله حبلا من الناس وذلك يقتضي المغايرة فكيف هذه المغايرة ؟
قلنا : قال بعضهم : حبل الله هو الإسلام ، وحبل الناس هو العهد والذمة ، وهذا بعيد لأنه لو كان المراد ذلك لقال : أو حبل من الناس ، وقال آخرون : المراد بكلا الحبلين العهد والذمة والأمان ، وإنما ذكر تعالى الحبلين لأن الأمان المأخوذ من المؤمنين هو الأمان المأخوذ بإذن الله وهذا عندي أيضا ضعيف ، والذي عندي فيه أن
الأمان الحاصل للذمي قسمان :
أحدهما : الذي نص الله عليه وهو أخذ الجزية .
والثاني : الذي فوض إلى رأي الإمام فيزيد فيه تارة وينقص بحسب الاجتهاد .
فالأول : هو المسمى بحبل الله . والثاني : هو المسمى بحبل المؤمنين والله أعلم .
ثم قال : (
وباءوا بغضب من الله ) وقد ذكرنا أن معناه : أنهم مكثوا ، ولبثوا وداموا في غضب الله ، وأصل ذلك مأخوذ من البوء وهو المكان ، ومنه : تبوأ فلان منزل كذا وبوأته إياه ، والمعنى أنهم مكثوا في غضب من الله وحلوا فيه ، وسواء قولك : حل بهم الغضب وحلوا به .
ثم قال : (
وضربت عليهم المسكنة ) والأكثرون حملوا المسكنة على الجزية وهو قول
الحسن ، قال : وذلك لأنه تعالى أخرج المسكنة عن الاستثناء وذلك يدل على أنها باقية عليهم غير زائلة عنهم ، والباقي عليهم ليس إلا الجزية ، وقال آخرون :
المراد بالمسكنة أن اليهودي يظهر من نفسه الفقر وإن كان غنيا موسرا ، وقال بعضهم : هذا إخبار من الله سبحانه بأنه جعل اليهود أرزاقا للمسلمين فيصيرون مساكين ، ثم إنه تعالى
[ ص: 162 ] لما ذكر هذه الأنواع من الوعيد قال : (
ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون الأنبياء بغير حق ) والمعنى :
أنه تعالى ألصق باليهود ثلاثة أنواع من المكروهات :
أولها : جعل الذلة لازمة لهم .
وثانيها : جعل غضب الله لازما لهم .
وثالثها : جعل المسكنة لازمة لهم ، ثم بين في هذه الآية أن العلة لإلصاق هذه الأشياء المكروهة بهم هي : أنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون الأنبياء بغير حق ، وهنا سؤالات :
السؤال الأول : هذه
الذلة والمسكنة إنما التصقت باليهود بعد ظهور دولة الإسلام ، والذين قتلوا الأنبياء بغير حق هم الذين كانوا قبل
محمد صلى الله عليه وسلم بأدوار وأعصار ، فعلى هذا الموضع الذي حصلت فيه العلة وهو
قتل الأنبياء لم يحصل فيه المعلول الذي هو الذلة والمسكنة ، والموضع الذي حصل فيه هذا المعلول لم تحصل فيه العلة ، فكان الإشكال لازما .
والجواب عنه : أن هؤلاء المتأخرين وإن كان لم يصدر عنهم قتل الأنبياء عليهم السلام لكنهم كانوا راضين بذلك ، فإن أسلافهم هم الذين قتلوا الأنبياء وهؤلاء المتأخرون كانوا راضين بفعل أسلافهم ، فنسب ذلك الفعل إليهم من حيث كان ذلك الفعل القبيح فعلا لآبائهم وأسلافهم مع أنهم كانوا مصوبين لأسلافهم في تلك الأفعال .
السؤال الثاني : لم كرر قوله : (
ذلك بما عصوا ) وما الحكمة فيه ولا يجوز أن يقال التكرير للتأكيد ، لأن التأكيد يجب أن يكون بشيء أقوى من المؤكد ، والعصيان أقل حالا من الكفر فلم يجز تأكيد الكفر بالعصيان ؟
والجواب من وجهين :
الأول : أن
علة الذلة والغضب والمسكنة هي الكفر وقتل الأنبياء ،
وعلة الكفر وقتل الأنبياء هي المعصية ، وذلك لأنهم لما توغلوا في المعاصي والذنوب فكانت ظلمات المعاصي تتزايد حالا فحالا ، ونور الإيمان يضعف حالا فحالا ، ولم يزل كذلك إلى أن بطل نور الإيمان وحصلت ظلمة الكفر ، وإليه الإشارة بقوله : (
كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون ) [ المطففين : 14 ] فقوله : (
ذلك بما عصوا ) إشارة إلى علة العلة ولهذا المعنى قال أرباب المعاملات : من ابتلي بترك الآداب وقع في ترك السنن ، ومن ابتلي بترك السنن وقع في ترك الفريضة ، ومن ابتلي بترك الفريضة وقع في استحقار الشريعة ، ومن ابتلي بذلك وقع في الكفر .
الثاني : يحتمل أن يريد بقوله : (
ذلك بأنهم كانوا يكفرون ) من تقدم منهم ، ويريد بقوله : (
ذلك بما عصوا ) من حضر منهم في زمان الرسول صلى الله عليه وسلم ، وعلى هذا لا يلزم التكرار ، فكأنه تعالى بين علة عقوبة من تقدم ، ثم بين أن من تأخر لما تبع من تقدم كان لأجل معصيته وعداوته مستوجبا لمثل عقوبتهم حتى يظهر للخلق أن ما أنزله الله بالفريقين من البلاء والمحنة ليس إلا من باب العدل والحكمة .