الصفة الثانية : قوله تعالى : (
يتلون آيات الله آناء الليل ) وفيه مسائل :
المسألة الأولى : ( يتلون ويؤمنون ) في محل الرفع صفتان لقوله : ( أمة ) أي أمة قائمة تالون مؤمنون .
المسألة الثانية : التلاوة القراءة وأصل الكلمة من الاتباع فكأن
التلاوة هي اتباع اللفظ اللفظ .
المسألة الثالثة :
آيات الله قد يراد بها آيات القرآن ، وقد يراد بها أصناف مخلوقاته التي هي دالة على ذاته وصفاته ، والمراد هاهنا الأولى .
المسألة الرابعة : (
آناء الليل ) أصلها في اللغة الأوقات والساعات وواحدها إنى ، مثل : معى وأمعاء ، وإني مثل نحي وأنحاء ، مكسور الأول ساكن الثاني ، قال
القفال رحمه الله ، كأن الثاني مأخوذ منه لأنه انتظار الساعات والأوقات ، وفي الخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم
nindex.php?page=hadith&LINKID=16012148قال للرجل الذي أخر المجيء إلى الجمعة " آذيت وآنيت " أي دافعت الأوقات .
الصفة الثالثة : قوله تعالى : (
وهم يسجدون ) وفيه وجوه . الأول : يحتمل أن يكون حالا من التلاوة كأنهم يقرءون القرآن في السجدة مبالغة في الخضوع والخشوع إلا أن
القفال رحمه الله روى في " تفسيره " حديثا : أن ذلك غير جائز ، وهو قوله عليه السلام : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=16012149ألا إني نهيت أن أقرأ راكعا أو ساجدا " . الثاني : يحتمل أن يكون كلاما مستقلا والمعنى أنهم يقومون تارة يبتغون الفضل والرحمة بأنواع ما يكون في الصلاة من الخضوع لله تعالى وهو كقوله : (
والذين يبيتون لربهم سجدا وقياما ) [ الفرقان : 64 ] وقوله : (
أم من هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه ) [ الزمر : 9 ] قال
الحسن : يريح رأسه بقدميه وقدميه برأسه ، وهذا على معنى إرادة الراحة وإزالة التعب وإحداث النشاط . الثالث : يحتمل أن يكون المراد بقوله : (
وهم يسجدون ) أنهم يصلون وصفهم بالتهجد بالليل ، والصلاة تسمى سجودا وسجدة وركوعا وركعة وتسبيحا وتسبيحة ، قال تعالى : (
واركعوا مع الراكعين ) [ البقرة : 43 ] أي صلوا وقال : (
فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون ) [ الروم : 17 ] والمراد الصلاة . الرابع : يحتمل أن يكون المراد بقوله : (
وهم يسجدون ) أي يخضعون ويخشعون لله لأن العرب تسمي الخشوع سجودا كقوله : (
ولله يسجد ما في السماوات وما في الأرض ) [ النمل : 49 ] وكل هذه الوجوه ذكرها
القفال رحمه الله .
[ ص: 166 ] الصفة الرابعة : قوله : (
يؤمنون بالله واليوم الآخر ) واعلم أن
اليهود كانوا أيضا يقومون في الليالي للتهجد وقراءة التوراة ، فلما مدح المؤمنين بالتهجد وقراءة القرآن أردف ذلك بقوله : (
يؤمنون بالله واليوم الآخر ) وقد بينا أن
الإيمان بالله يستلزم الإيمان بجميع أنبيائه ورسله والإيمان باليوم الآخر يستلزم الحذر من المعاصي ، وهؤلاء
اليهود ينكرون أنبياء الله ولا يحترزون عن معاصي الله ، فلم يحصل لهم الإيمان بالمبدأ والمعاد .
واعلم أن كمال الإنسان أن يعرف الحق لذاته ، والخير لأجل العمل به ،
وأفضل الأعمال الصلاة
وأفضل الأذكار ذكر الله ،
وأفضل المعارف معرفة المبدأ ومعرفة المعاد ، فقوله : (
يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون ) إشارة إلى الأعمال الصالحة الصادرة عنهم ، وقوله : (
يؤمنون بالله واليوم الآخر ) إشارة إلى فضل المعارف الحاصلة في قلوبهم فكان هذا إشارة إلى كمال حالهم في القوة العملية وفي القوة النظرية ، وذلك أكمل أحوال الإنسان ، وهي المرتبة التي يقال لها : إنها آخر درجات الإنسانية وأول درجات الملكية .
الصفة الخامسة : قوله : (
ويأمرون بالمعروف ) .
الصفة السادسة : قوله : (
وينهون عن المنكر ) واعلم أن
الغاية القصوى في الكمال أن يكون تاما وفوق التمام ، فكون الإنسان تاما ليس إلا في كمال قوته العملية والنظرية وقد تقدم ذكره ، وكونه فوق التمام أن يسعى في تكميل الناقصين ، وذلك بطريقين ، إما بإرشادهم إلى ما ينبغي وهو الأمر بالمعروف ، أو يمنعهم عما لا ينبغي وهو النهي عن المنكر ، قال
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس رضي الله عنهما : (
يأمرون بالمعروف ) أي بتوحيد الله وبنبوة
محمد صلى الله عليه وسلم (
وينهون عن المنكر ) أي ينهون عن الشرك بالله ، وعن إنكار نبوة
محمد صلى الله عليه وسلم ، واعلم أن لفظ المعروف والمنكر مطلق فلم يجز تخصيصه بغير دليل ، فهو يتناول كل معروف وكل منكر .
الصفة السابعة : قوله : (
ويسارعون في الخيرات ) وفيه وجهان . أحدهما : أنهم يتبادرون إليها خوف الفوت بالموت ، والآخر : يعملونها غير متثاقلين . فإن قيل : أليس أن
العجلة مذمومة قال عليه الصلاة والسلام : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=16012150العجلة من الشيطان والتأني من الرحمن " فما
الفرق بين السرعة وبين العجلة ؟ قلنا : السرعة مخصوصة بأن يقدم ما ينبغي تقديمه ، والعجلة مخصوصة بأن يقدم ما لا ينبغي تقديمه ، فالمسارعة مخصوصة بفرط الرغبة فيما يتعلق بالدين ، لأن من رغب في الأمر ، آثر الفور على التراخي ، قال تعالى : (
وسارعوا إلى مغفرة من ربكم ) [ آل عمران : 133 ] وأيضا العجلة ليست مذمومة على الإطلاق بدليل قوله تعالى : (
وعجلت إليك رب لترضى ) [ طه : 84 ] .
الصفة الثامنة : قوله : (
وأولئك من الصالحين ) والمعنى وأولئك الموصوفون بما وصفوا به من جملة الصالحين الذين صلحت أحوالهم عند الله تعالى ورضيهم ، واعلم أن الوصف بذلك غاية المدح ويدل عليه القرآن والمعقول ، أما القرآن ، فهو أن الله تعالى مدح بهذا الوصف أكابر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فقال : بعد ذكر
إسماعيل وإدريس وذي الكفل وغيرهم (
وأدخلناهم في رحمتنا إنهم من الصالحين ) [ الأنبياء : 86 ] وذكر حكاية عن
سليمان عليه السلام أنه قال : (
وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين ) [ النمل : 19 ] وقال : (
فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين ) [ التحريم : 4 ] وأما المعقول فهو أن الصلاح ضد الفساد ، وكل ما لا ينبغي أن يكون فهو فساد ، سواء كان ذلك في العقائد ، أو في الأعمال ، فإذا كان كل ما حصل من باب
[ ص: 167 ] ما ينبغي أن يكون ، فقد حصل الصلاح ، فكان الصلاح دالا على أكمل الدرجات .