(
ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة فاتقوا الله لعلكم تشكرون )
قوله تعالى : (
ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة فاتقوا الله لعلكم تشكرون )
في كيفية النظم وجهان : الأول : أنه تعالى لما ذكر قصة
أحد أتبعها بذكر قصة
بدر ، وذلك لأن
المسلمين يوم بدر كانوا في غاية الفقر والعجز ، والكفار كانوا في غاية الشدة والقوة ، ثم إنه تعالى سلط المسلمين على المشركين فصار ذلك من أقوى الدلائل على أن
العاقل يجب أن لا يتوسل إلى تحصيل غرضه ومطلوبه إلا بالتوكل على الله والاستعانة به ، والمقصود من ذكر هذه القصة تأكيد قوله : (
وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا ) وتأكيد قوله : (
وعلى الله فليتوكل المؤمنون ) . الثاني : أنه تعالى حكى عن الطائفتين أنهما همتا بالفشل .
ثم قال : (
والله وليهما وعلى الله فليتوكل المؤمنون ) يعني
من كان الله ناصرا له ومعينا له فكيف يليق به هذا الفشل والجبن والضعف ؟ ثم أكد ذلك بقصة
بدر فإن المسلمين كانوا في غاية الضعف ولكن لما كان الله ناصرا لهم فازوا بمطلوبهم وقهروا خصومهم فكذا هاهنا ، فهذا تقرير وجه النظم ، وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : في
بدر أقوال . الأول :
بدر اسم بئر لرجل يقال له
بدر فسميت البئر باسم صاحبها هذا قول
nindex.php?page=showalam&ids=14577الشعبي . الثاني : أنه اسم للبئر كما يسمى البلد باسم من غير أن ينقل إليه اسم صاحبه وهذا قول
nindex.php?page=showalam&ids=15472الواقدي وشيوخه ، وأنكروا قول
nindex.php?page=showalam&ids=14577الشعبي ، وهو ماء بين
مكة والمدينة .
المسألة الثانية : ( أذلة ) جمع ذليل قال
الواحدي : الأصل في الفعيل إذا كان صفة أن يجمع على فعلاء كظريف وظرفاء وكثير وكثراء وشريك وشركاء إلا أن لفظ فعلاء اجتنبوه في التضعيف لأنهم لو قالوا : قليل وقللاء وخليل وخللاء لاجتمع حرفان من جنس واحد فعدل إلى أفعلة لأن من جموع الفعيل : الأفعلة ، كجريب وأجربة ، وقفيز وأقفزة فجعلوه جمع ذليل أذلة ، قال صاحب " الكشاف " : الأذلة جمع قلة ، وإنما ذكر جمع القلة ليدل على أنهم مع ذلهم كانوا قليلين .
المسألة الثالثة : قوله : (
وأنتم أذلة ) في موضع الحال ، وإنما كانوا أذلة لوجوه . الأول : أنه تعالى قال : (
ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ) [ المنافقون : 8 ] فلا بد من تفسير هذا الذل بمعنى لا ينافي مدلول هذه الآية ، وذلك هو تفسيره بقلة العدد وضعف الحال وقلة السلاح والمال وعدم القدرة على مقاومة العدو ،
ومعنى الذل الضعف عن المقاومة ونقيضه العز وهو القوة والغلبة ، روي أن المسلمين كانوا ثلاثمائة وبضعة عشر ، وما كان
[ ص: 183 ] فيهم إلا فرس واحد ، وأكثرهم كانوا رجالة ، وربما كان الجمع منهم يركب جملا واحدا ، والكفار قريبين من ألف مقاتل ومعهم مائة فرس مع الأسلحة الكثيرة والعدة الكاملة . الثاني : لعل المراد أنهم كانوا أذلة في زعم المشركين واعتقادهم لأجل قلة عددهم وسلاحهم ، وهو مثل ما حكى الله عن الكفار أنهم قالوا : (
ليخرجن الأعز منها الأذل ) [ المنافقون : 8 ] . الثالث : أن الصحابة قد شاهدوا الكفار في
مكة في القوة والثروة وإلى ذلك الوقت ما اتفق لهم استيلاء على أولئك الكفار ، فكانت هيبتهم باقية في قلوبهم واستعظامهم مقررا في نفوسهم فكانوا لهذا السبب يهابونهم ويخافون منهم .
ثم قال تعالى : (
فاتقوا الله ) أي في الثبات مع رسوله (
لعلكم تشكرون ) بتقواكم ما أنعم به عليكم من نصرته أو لعل الله ينعم عليكم نعمة أخرى تشكرونها ، فوضع الشكر موضع الإنعام ، لأنه سبب له .