المسألة الثالثة : قوله : (
ليس لك من الأمر شيء ) فيه قولان . الأول : أن معناه ليس لك من قصة هذه الواقعة ومن شأن هذه الحادثة شيء وعلى هذا فنقل عن المفسرين عبارات . أحدهما : ليس لك من مصالح عبادي شيء إلا ما أوحي إليك . وثانيها : ليس لك من مسألة إهلاكهم شيء ، لأنه تعالى أعلم بالمصالح فربما تاب عليهم . وثالثها : ليس لك في أن يتوب الله عليهم ، ولا في أن يعذبهم شيء .
والقول الثاني : أن المراد هو الأمر الذي يضاد النهي ، والمعنى : ليس لك من أمر خلقي شيء إلا إذا كان على وفق أمري ، وهو كقوله : (
ألا له الحكم ) [ الأنعام : 62 ] وقوله : (
لله الأمر من قبل ومن بعد ) [ الروم : 4 ] وعلى القولين فالمقصود من الآية
منعه صلى الله عليه وسلم من كل فعل وقول إلا ما كان بإذنه وأمره وهذا هو الإرشاد إلى أكمل درجات العبودية ، ثم اختلفوا في أن
المنع من اللعن لأي معنى كان ؟ منهم من قال الحكمة فيه أنه تعالى ربما علم من حال بعض الكفار أنه يتوب ، أو إن لم يتب لكنه علم أنه سيولد منه ولد يكون مسلما برا تقيا ، وكل من كان كذلك ، فإن اللائق برحمة الله تعالى أن يمهله في الدنيا وأن يصرف عنه الآفات إلى أن يتوب أو إلى أن يحصل ذلك الولد فإذا حصل دعاء الرسول عليهم بالإهلاك ، فإن قبلت دعوته فات هذا المقصود ، وإن لم تقبل دعوته كان ذلك كالاستخفاف بالرسول صلى الله عليه وسلم ، فلأجل هذا المعنى منعه الله تعالى من اللعن وأمره بأن يفوض الكل إلى علم الله تعالى ، ومنهم من قال : المقصود منه إظهار عجز العبودية وأن لا يخوض العبد في أسرار الله تعالى في ملكه وملكوته ، هذا هو الأحسن عندي والأوفق لمعرفة الأصول الدالة على حقيقة الربوبية والعبودية .
المسألة الرابعة : ذكر
الفراء والزجاج وغيرهما في هذه الآية قولين . أحدهما : أن قوله : (
أو يتوب عليهم ) عطف على ما قبله ، والتقدير : ليقطع طرفا من الذين كفروا ، أو يكبتهم ، أو يتوب عليهم ، أو يعذبهم ، ويكون قوله : (
ليس لك من الأمر شيء ) كالكلام الأجنبي الواقع بين المعطوف والمعطوف عليه ، كما تقول : ضربت زيدا ، فأعلم ذلك عمرا ، فعلى هذا القول هذه الآية متصلة بما قبلها .
والقول الثاني : أن معنى ( أو ) هاهنا معنى حتى ، أو ( إلا أن ) كقولك : لألزمنك أو تعطيني حقي والمعنى : إلا أن تعطيني أو حتى تعطيني ، ومعنى الآية ليس لك من أمرهم شيء إلا أن يتوب الله عليهم فتفرح بحالهم ، أو يعذبهم فتتشفى منهم .