ثم إنه تعالى أتبع ذلك بأن مدحهم بصفات الثبوت فقال :
(
وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين )
قوله تعالى : (
وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين ) وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : قوله : (
وثبت أقدامنا ) يدل على أن
فعل العبد خلق الله تعالى ،
والمعتزلة يحملونه على فعل الألطاف .
المسألة الثانية : بين تعالى أنهم كانوا مستعدين عند ذلك
التصبر والتجلد بالدعاء والتضرع بطلب الإمداد والإعانة من الله ، والغرض منه أن يقتدي بهم في هذه الطريقة أمة
محمد صلى الله عليه وسلم ، فإن من عول في تحصيل مهماته على نفسه ذل ، ومن اعتصم بالله فاز بالمطلوب ، قال القاضي : إنما قدموا قولهم :
[ ص: 24 ] (
ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا ) لأنه تعالى لما ضمن النصرة للمؤمنين ، فإذا لم تحصل النصرة وظهر أمارات استيلاء العدو ، دل ذلك ظاهرا على صدور ذنب وتقصير من المؤمنين ؛ فلهذا المعنى يجب عليهم تقديم التوبة والاستغفار على طلب النصرة ، فبين تعالى أنهم بدءوا بالتوبة عن كل المعاصي وهو المراد بقوله : (
ربنا اغفر لنا ذنوبنا ) فدخل فيه كل الذنوب ، سواء كانت من الصغائر أو من الكبائر ، ثم إنهم خصوا الذنوب العظيمة الكبيرة منها بالذكر بعد ذلك لعظمها وعظم عقابها وهو المراد من قوله : (
وإسرافنا في أمرنا ) لأن الإسراف في كل شيء هو الإفراط فيه ، قال تعالى : (
قل ياعبادي الذين أسرفوا على أنفسهم ) [الزمر : 53] وقال : (
فلا يسرف في القتل ) [الإسراء : 33] وقال : (
وكلوا واشربوا ولا تسرفوا ) [الأعراف : 31] ويقال : فلان مسرف إذا كان مكثرا في النفقة وغيرها ، ثم إنهم لما فرغوا من ذلك سألوا ربهم أن يثبت أقدامهم ، وذلك بإزالة الخوف عن قلوبهم ، وإزالة الخواطر الفاسدة عن صدورهم ، ثم سألوا بعد ذلك أن ينصرهم على القوم الكافرين ؛ لأن هذه النصرة لا بد فيها من أمور زائدة على ثبات أقدامهم ، وهو كالرعب الذي يلقيه في قلوبهم ، وإحداث أحوال سماوية أو أرضية توجب انهزامهم ، مثل هبوب رياح تثير الغبار في وجوههم ، ومثل جريان سيل في موضع وقوفهم ، ثم قال القاضي : وهذا تأديب من الله تعالى في
كيفية الطلب بالأدعية عند النوائب والمحن سواء كان في الجهاد أو غيره .