ثم قال تعالى : (
ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك ) .
واعلم أن كمال رحمة الله في حق
محمد صلى الله عليه وسلم أنه عرفه مفاسد الفظاظة والغلظة وفيه مسائل .
المسألة الأولى : قال
الواحدي : رحمه الله تعالى : الفظ ، الغليظ الجانب السيء الخلق ، يقال : فظظت تفظ فظاظة فأنت فظ ، وأصله فظظ ، كقوله : حذر من حذرت ، وفرق من فرقت ، إلا أن ما كان من المضاعف على هذا الوزن يدغم نحو رجل صب ، وأصله صبب ، وأما "الفض" بالضاد فهو تفريق الشيء ، وانفض القوم تفرقوا ، قال تعالى : (
وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها ) [الجمعة : 11] ومنه : فضضت الكتاب ، ومنه يقال : لا يفضض الله فاك .
فإن قيل : ما
الفرق بين الفظ وبين غليظ القلب ؟
قلنا : الفظ الذي يكون سيء الخلق ، وغليظ القلب هو الذي لا يتأثر قلبه عن شيء ، فقد لا يكون الإنسان سيء الخلق ولا يؤذي أحدا ولكنه لا يرق لهم ولا يرحمهم ، فظهر الفرق من هذا الوجه .
المسألة الثانية : إن المقصود من البعثة أن يبلغ الرسول تكاليف الله إلى الخلق ، وهذا المقصود لا يتم إلا إذا مالت قلوبهم إليه وسكنت نفوسهم لديه ، وهذا المقصود لا يتم إلا إذا كان رحيما كريما ، يتجاوز عن ذنبهم ، ويعفو عن إساءتهم ، ويخصهم بوجوه البر والمكرمة والشفقة ، فلهذه الأسباب وجب أن يكون
الرسول مبرأ عن سوء الخلق ، وكما يكون كذلك وجب أن يكون غير غليظ القلب ، بل يكون كثير الميل إلى إعانة الضعفاء ، كثير القيام بإعانة الفقراء ، كثير التجاوز عن سيئاتهم ، كثير الصفح عن زلاتهم ، فلهذا المعنى قال : (
ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك ) ولو انفضوا من حولك فات المقصود من البعثة والرسالة . وحمل
القفال رحمه الله هذه الآية على واقعة
أحد قال : (
فبما رحمة من الله لنت لهم ) يوم
أحد حين عادوا إليك بعد الانهزام (
ولو كنت فظا غليظ القلب ) وشافهتهم بالملامة على ذلك الانهزام لانفضوا من حولك ، هيبة منك وحياء بسبب ما كان منهم من الانهزام ، فكان ذلك مما لا يطمع العدو فيك وفيهم .
[ ص: 53 ] المسألة الثالثة :
اللين والرفق إنما يجوز إذا لم يفض إلى إهمال حق من حقوق الله ، فأما إذا أدى إلى ذلك لم يجز ، قال تعالى : (
ياأيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ) [التوبة : 73] وقال للمؤمنين في إقامة حد الزنا : (
ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله ) [النور : 2] .
وهاهنا دقيقة أخرى : وهي أنه تعالى منعه من الغلظة في هذه الآية ، وأمره بالغلظة في قوله : (
واغلظ عليهم ) فهاهنا نهاه عن الغلظة على المؤمنين ، وهناك أمره بالغلظة مع الكافرين ، فهو كقوله : (
أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين ) [المائدة : 54] وقوله : (
أشداء على الكفار رحماء بينهم ) [الفتح : 29] وتحقيق القول فيه أن طرفي الإفراط والتفريط مذمومان ، والفضيلة في الوسط ، فورود الأمر بالتغليظ تارة ، وأخرى بالنهي عنه ، إنما كان لأجل أن يتباعد عن الإفراط والتفريط ، فيبقى على الوسط الذي هو الصراط المستقيم ، فلهذا السر مدح الله الوسط فقال : (
وكذلك جعلناكم أمة وسطا ) [البقرة : 143] .