(
لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين )
قوله تعالى : (
لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين )
اعلم أن في وجه النظم وجوها :
الأول : أنه تعالى لما بين خطأ من نسبه إلى الغلول والخيانة أكد ذلك بهذه الآية ، وذلك لأن هذا الرسول ولد في بلدهم ونشأ فيما بينهم ، ولم يظهر منه طول عمره إلا الصدق والأمانة والدعوة إلى الله والإعراض عن الدنيا ، فكيف يليق بمن هذا حاله الخيانة .
الوجه الثاني : أنه لما بين خطأهم في نسبته إلى الخيانة والغلول قال : لا أقنع بذلك ، ولا أكتفي في حقه بأن أبين براءته عن الخيانة والغلول ، ولكني أقول : إن وجوده فيكم من أعظم نعمتي عليكم فإنه يزكيكم عن الطريق الباطلة ، ويعلمكم العلوم النافعة لكم في دنياكم وفي دينكم ، فأي عاقل يخطر بباله أن ينسب مثل هذا الإنسان إلى الخيانة .
الوجه الثالث : كأنه تعالى يقول : إنه منكم ومن أهل بلدكم ومن أقاربكم ، وأنتم أرباب الخمول والدناءة ، فإذا شرفه الله تعالى وخصه بمزايا الفضل والإحسان من جميع العالمين ، حصل لكم شرف عظيم
[ ص: 64 ] بسبب كونه فيكم ، فطعنكم فيه واجتهادكم في نسبة القبائح إليه على خلاف العقل .
الوجه الرابع : أنه لما كان في الشرف والمنقبة بحيث يمن الله به على عباده وجب على كل عاقل أن يعينه بأقصى ما يقدر عليه ، فوجب عليكم أن تحاربوا أعداءه وأن تكونوا معه باليد واللسان والسيف والسنان ، والمقصود منه العود إلى ترغيب المسلمين في مجاهدة الكفار . وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : قال
الواحدي رحمه الله :
للمن في كلام العرب معان :
أحدها : الذي يسقط من السماء وهو قوله : (
وأنزلنا عليكم المن والسلوى ) [البقرة : 57] .
وثانيها : أن تمن بما أعطيت وهو قوله : (
لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى ) [البقرة : 264] .
وثالثها : القطع وهو قوله : (
لهم أجر غير ممنون ) [فصلت : 8] (
وإن لك لأجرا غير ممنون ) .
ورابعها : الإنعام والإحسان إلى من لا تطلب الجزاء منه ، ومنه قوله : (
هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك ) [ص : 39] وقوله : (
ولا تمنن تستكثر )
والمنان في صفة الله تعالى : المعطي ابتداء من غير أن يطلب منه عوضا وقوله : (
لقد من الله على المؤمنين ) أي أنعم عليهم وأحسن إليهم ببعثه هذا الرسول .
المسألة الثانية : أن
بعثة الرسول إحسان إلى كل العالمين ، وذلك لأن وجه الإحسان في بعثته كونه داعيا لهم إلى ما يخلصهم من عقاب الله ويوصلهم إلى ثواب الله ، وهذا عام في حق العالمين ؛ لأنه مبعوث إلى كل العالمين ، كما قال تعالى : (
وما أرسلناك إلا كافة للناس ) [سبأ : 28] إلا أنه لما لم ينتفع بهذا الإنعام إلا أهل الإسلام ، فلهذا التأويل خص تعالى هذه المنة بالمؤمنين ، ونظيره قوله تعالى : (
هدى للمتقين ) [البقرة : 2] مع أنه هدى للكل ، كما قال : (
هدى للناس ) [البقرة : 185] وقوله : (
إنما أنت منذر من يخشاها ) [النازعات : 45] .