أما قوله تعالى : (
فقنا عذاب النار ) فاعلم أنه تعالى لما حكى عن هؤلاء العباد المخلصين أن ألسنتهم مستغرقة بذكر الله تعالى ، وأبدانهم في طاعة الله ، وقلوبهم في التفكر في دلائل عظمة الله ، ذكر أنهم مع هذه الطاعات يطلبون من الله أن يقيهم عذاب النار ، ولولا أنه يحسن من الله تعذيبهم وإلا لكان هذا الدعاء عبثا ، فإن كان
المعتزلة ظنوا أن أول الآية حجة لهم ، فليعلموا أن آخر هذه الآية حجة لنا في
[ ص: 115 ] أنه
لا يقبح من الله شيء أصلا ، ومثل هذا التضرع ما حكاه الله تعالى عن
إبراهيم في قوله : (
والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين ) [ الشعراء : 82 ] .
النوع الثاني من دعواتهم : قوله تعالى حكاية عنهم : (
ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته وما للظالمين من أنصار ) وفيه مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أنهم لما سألوا ربهم أن يقيهم عذاب النار أتبعوا ذلك بما يدل على عظم ذلك العقاب وشدته وهو الخزي ، ليكون موقع السؤال أعظم ، لأن من سأل ربه أن يفعل شيئا أو أن لا يفعله ، إذا شرح عظم ذلك المطلوب وقوته كانت داعيته في ذلك الدعاء أكمل وإخلاصه في طلبه أشد ، والدعاء لا يتصل بالإجابة إلا إذا كان مقرونا بالأخص ، فهذا تعليم من الله عباده في كيفية إيراد الدعاء .
المسألة الثانية : قال
الواحدي :
الإخزاء في اللغة يرد على معان يقرب بعضها من بعض . قال
الزجاج : أخزى الله العدو ، أي أبعده ، وقال غيره : أخزاه الله ، أي أهانه ، وقال
شمر بن حمدويه : أخزاه الله أي فضحه الله ، وفي القرآن (
ولا تخزوني في ضيفي ) [ هود : 78 ] وقال
المفضل : أخزاه الله ، أي أهلكه ، وقال
nindex.php?page=showalam&ids=12590ابن الأنباري : الخزي في اللغة الهلاك بتلف أو انقطاع حجة أو بوقوع في بلاء ، وكل هذه الوجوه متقاربة . ثم قال صاحب الكشاف : " فقد أخزيته " أي قد أبلغت في إخزائه ، وهو نظير ما يقال : من سبق فلانا فقد سبق ، ومن تعلم من فلان فقد تعلم .
المسألة الثالثة : قالت
المعتزلة : هذه الآية دالة على أن
صاحب الكبيرة من أهل الصلاة ليس بمؤمن ، وذلك لأن صاحب الكبيرة إذا دخل النار فقد أخزاه الله لدلالة هذه الآية ، والمؤمن لا يخزى لقوله تعالى : (
يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه ) [ التحريم : 8 ] فوجب من مجموع هاتين الآيتين أن لا يكون صاحب الكبيرة مؤمنا .
والجواب : أن قوله (
يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه ) لا يقتضي نفي الإخزاء مطلقا ، وإنما يقتضي أن لا يحصل الإخزاء حال ما يكون مع النبي ، وهذا النفي لا يناقضه إثبات الإخزاء في الجملة لاحتمال أن يحصل ذلك الإثبات في وقت آخر ، هذا هو الذي صح عندي في الجواب ، وذكر
الواحدي في البسيط أجوبة ثلاثة سوى ما ذكرناه :
أحدها : أنه نقل عن
nindex.php?page=showalam&ids=15990سعيد بن المسيب nindex.php?page=showalam&ids=16004والثوري وقتادة أن قوله : (
إنك من تدخل النار فقد أخزيته ) مخصوص بمن يدخل النار للخلود ، وهذا الجواب عندي ضعيف ، لأن مذهب
المعتزلة أن كل فاسق دخل النار فإنما دخلها للخلود ، فهذا لا يكون سؤالا عنهم .
ثانيها : قال : المدخل في النار مخزي في حال دخوله وإن كانت عاقبته أن يخرج منها ، وهذا ضعيف أيضا لأن موضع الاستدلال أن قوله : (
يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه ) [ التحريم : 8 ] يدل على نفي الخزي عن المؤمنين على الإطلاق ، وهذه الآية دلت على
حصول الخزي لكل من دخل النار ، فحصل بحكم هاتين الآيتين بين كونه مؤمنا وبين كونه كافرا ممن يدخل النار منافاة .
وثالثها : قال : الإخزاء يحتمل وجهين :
أحدهما : الإهانة والإهلاك .
والثاني : التخجيل ، يقال : خزي خزاية إذا استحيا ، وأخزاه غيره إذا عمل به عملا يخجله ويستحيي منه .
[ ص: 116 ] واعلم أن حاصل هذا الجواب : أن لفظ الإخزاء لفظ مشترك بين التخجيل وبين الإهلاك ، واللفظ المشترك لا يمكن حمله في طرفي النفي والإثبات على معنييه جميعا ، وإذا كان كذلك جاز أن يكون المنفي بقوله : (
يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه ) غير المثبت في قوله : (
إنك من تدخل النار فقد أخزيته ) وعلى هذا يسقط الاستدلال ، إلا أن هذا الجواب إنما يتمشى إذا كان لفظ الإخزاء مشتركا بين هذين المفهومين ، أما إذا كان لفظا متواطئا مفيدا لمعنى واحد ، وكان المعنيان اللذان ذكرهما
الواحدي نوعين تحت جنس واحد ، سقط هذا الجواب لأن قوله : (
يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه ) [ التحريم : 8 ] لنفي الجنس وقوله : (
فقد أخزيته ) لإثبات النوع ، وحينئذ يحصل بينهما منافاة .
المسألة الرابعة : احتجت
المرجئة بهذه الآية في القطع على أن صاحب الكبيرة لا يخزى ، وكل من دخل النار فإنه يخزى ، فيلزم القطع بأن صاحب الكبيرة لا يدخل النار . إنما قلنا صاحب الكبيرة لا يخزى ; لأن صاحب الكبيرة مؤمن ، والمؤمن لا يخزى ، إنما قلنا إنه مؤمن لقوله تعالى : (
وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله ) [ الحجرات : 9 ] سمي الباغي حال كونه باغيا مؤمنا ، والبغي من الكبائر بالإجماع ، وأيضا قال تعالى : (
ياأيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى ) [ البقرة : 178 ] سمي القاتل بالعمد العدوان مؤمنا ، فثبت أن صاحب الكبيرة مؤمن ، وإنما قلنا إن المؤمن لا يخزى لقوله : (
يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه ) [ التحريم : 8 ] ولقوله : (
ولا تخزنا يوم القيامة ) [ آل عمران : 194 ] .
ثم قال تعالى : (
فاستجاب لهم ربهم ) وهذه الاستجابة تدل على
أنه تعالى لا يخزي المؤمنين ، فثبت بما ذكرنا أن صاحب الكبيرة لا يخزى بالنار ، وإنما قلنا إن كل من دخل النار فإنه يخزى لقوله تعالى : (
إنك من تدخل النار فقد أخزيته ) وحينئذ يتولد من هاتين المقدمتين القطع بأن صاحب الكبيرة لا يدخل النار .
والجواب عنه ما تقدم : أن قوله : (
يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه ) [ التحريم : 8 ] لا يدل على نفي الإخزاء مطلقا ، بل يدل على نفي الإخزاء حال كونهم مع النبي ، وذلك لا ينافي حصول الإخزاء في وقت آخر .
المسألة الخامسة : قوله : (
إنك من تدخل النار فقد أخزيته ) عام دخله الخصوص في مواضع منها : إن قوله تعالى : (
وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا ثم ننجي الذين اتقوا ) [ مريم : 71 ، 72 ] يدل على أن كل المؤمنين يدخلون النار ، وأهل الثواب يصانون عن الخزي .
وثانيها : أن الملائكة الذين هم خزنة جهنم يكونون في النار ، وهم أيضا يصانون عن الخزي . قال تعالى : (
عليها ملائكة غلاظ شداد ) [ التحريم : 6 ] .
المسألة السادسة : احتج حكماء الإسلام بهذه الآية على أن
العذاب الروحاني أشد وأقوى من العذاب الجسماني ، قالوا : لأن الآية دالة على التهديد بعد عذاب النار بالخزي ، والخزي عبارة عن التخجيل وهو عذاب روحاني ، فلولا أن العذاب الروحاني أقوى من العذاب الجسماني وإلا لما حسن تهديد من عذب بالنار بعذاب الخزي والخجالة .
[ ص: 117 ] المسألة السابعة : احتجت
المعتزلة بهذه الآية على أن
الفساق الذين دخلوا النار لا يخرجون منها بل يبقون هناك مخلدين ، وقالوا : الخزي هو الهلاك ، فقوله : (
إنك من تدخل النار فقد أخزيته ) معناه فقد أهلكته ، ولو كانوا يخرجون من النار إلى الجنة لما صح أن كل من دخل النار فقد هلك . والجواب : أنا لا نفسر الخزي بالإهلاك ، بل نفسره بالإهانة والتخجيل ، وعند هذا يزول كلامكم .