[ ص: 133 ] قوله تعالى : (
واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا ) .
فيه مسائل .
المسألة الأولى : قرأ
عاصم وحمزة والكسائي : (
تساءلون ) بالتخفيف والباقون بالتشديد ، فمن شدد أراد : تتساءلون فأدغم التاء في السين لاجتماعهما في أنهما من حروف اللسان وأصول الثنايا واجتماعهما في الهمس ، ومن خفف حذف تاء تتفاعلون لاجتماع حروف متقاربة ، فأعلها بالحذف كما أعلها الأولون بالإدغام ، وذلك ؛ لأن الحروف المتقاربة إذا اجتمعت خففت تارة بالحذف وأخرى بالإدغام .
المسألة الثانية : قرأ
حمزة وحده ( والأرحام ) بجر الميم قال
القفال رحمه الله : وقد رويت هذه القراءة عن غير القراء السبعة عن
nindex.php?page=showalam&ids=16879مجاهد وغيره ، وأما الباقون من القراء فكلهم قرءوا بنصب الميم . وقال صاحب " الكشاف " : قرئ ( والأرحام ) بالحركات الثلاث ، أما قراءة
حمزة فقد ذهب الأكثرون من النحويين إلى أنها فاسدة ، قالوا : لأن هذا يقتضي عطف المظهر على المضمر المجرور وذلك غير جائز . واحتجوا على عدم جوازه بوجوه :
أولها : قال
أبو علي الفارسي : المضمر المجرور بمنزلة الحرف ، فوجب أن لا يجوز عطف المظهر عليه ، إنما قلنا المضمر المجرور بمنزلة الحرف لوجوه :
الأول : أنه لا ينفصل البتة كما أن التنوين لا ينفصل ، وذلك أن الهاء والكاف في قوله : به ، وبك لا ترى واحدا منفصلا عن الجار البتة فصار كالتنوين .
الثاني : أنهم يحذفون الياء من المنادى المضاف في الاختيار كحذفهم التنوين من المفرد ، وذلك كقولهم : يا غلام ، فكان المضمر المجرور مشابها للتنوين من هذا الوجه ، فثبت أن المضمر المجرور بمنزلة حرف التنوين ، فوجب أن لا يجوز عطف المظهر عليه ؛ لأن من شرط العطف حصول المشابهة بين المعطوف والمعطوف عليه ، فإذا لم تحصل المشابهة ههنا وجب أن لا يجوز العطف .
وثانيها : قال
علي بن عيسى : إنهم لم يستحسنوا عطف المظهر على المضمر المرفوع . فلا يجوز أن يقال : اذهب وزيد ، وذهبت وزيد بل يقولون : اذهب أنت وزيد ، وذهبت أنا وزيد . قال تعالى : (
فاذهب أنت وربك فقاتلا ) [ المائدة - 24 ] مع أن المضمر المرفوع قد ينفصل ، فإذا لم يجز عطف المظهر على المضمر المرفوع مع أنه أقوى من المضمر المجرور بسبب أنه قد ينفصل ، فلأن لا يجوز عطف المظهر على المضمر المجرور مع أنه البتة لا ينفصل كان أولى .
وثالثها : قال
أبو عثمان المازني : المعطوف والمعطوف عليه متشاركان ، وإنما يجوز عطف الأول على الثاني لو جاز عطف الثاني على الأول ، وههنا هذا المعنى غير حاصل ، وذلك لأنك لا تقول : مررت بزيد وبك ، فكذلك لا تقول : مررت بك وزيد .
واعلم أن هذه الوجوه ليست وجوها قوية في دفع الروايات الواردة في اللغات ، وذلك لأن
حمزة أحد القراء السبعة ، والظاهر أنه لم يأت بهذه القراءة من عند نفسه ، بل رواها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وذلك يوجب القطع بصحة هذه اللغة ، والقياس يتضاءل عند السماع لا سيما بمثل هذه الأقيسة التي هي أوهن من بيت العنكبوت ، وأيضا فلهذه القراءة وجهان :
أحدهما : أنها على تقدير تكرير الجار ، كأنه قيل تساءلون به وبالأرحام .
وثانيها : أنه ورد ذلك في الشعر ، وأنشد سيبويه في ذلك :
فاليوم قد بت تهجونا وتشتمنا فاذهب فما بك والأيام من عجب
[ ص: 134 ] وأنشد أيضا :
نعلق في مثل السواري سيوفنا وما بينها والكعب غوط نفانف
والعجب من هؤلاء النحاة أنهم يستحسنون إثبات هذه اللغة بهذين البيتين المجهولين ولا يستحسنون إثباتها بقراءة
حمزة nindex.php?page=showalam&ids=16879ومجاهد ، مع أنهما كانا من أكابر علماء السلف في علم القرآن . واحتج
الزجاج على فساد هذه القراءة من جهة المعنى بقوله صلى الله عليه وسلم : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=16012249لا تحلفوا بآبائكم " فإذا عطفت الأرحام على المكنى عن اسم الله اقتضى ذلك جواز
الحلف بالأرحام ، ويمكن الجواب عنه بأن هذا حكاية عن فعل كانوا يفعلونه في الجاهلية لأنهم كانوا يقولون : أسألك بالله والرحم ، وحكاية هذا الفعل عنهم في الماضي لا تنافي ورود النهي عنه في المستقبل ، وأيضا فالحديث نهي عن
الحلف بالآباء فقط ، وههنا ليس كذلك ، بل هو حلف بالله أولا ثم يقرن به بعده ذكر الرحم ، فهذا لا ينافي مدلول ذلك الحديث ، فهذا جملة الكلام في قراءة قوله : (
والأرحام ) بالجر .
أما قراءته بالنصب ففيه وجهان :
الأول وهو اختيار
أبي علي الفارسي وعلي بن عيسى : أنه عطف على موضع الجار والمجرور كقوله :
فلسنا بالجبال ولا الحديدا
والثاني : وهو قول أكثر المفسرين : أن التقدير : واتقوا الأرحام أن تقطعوها ، وهو قول
nindex.php?page=showalam&ids=16879مجاهد وقتادة والسدي والضحاك وابن زيد والفراء والزجاج ، وعلى هذا الوجه فنصب الأرحام بالعطف على قوله : (
الله ) أي : اتقوا الله واتقوا الأرحام : أي اتقوا حق الأرحام فصلوها ولا تقطعوها ، قال
الواحدي رحمه الله : ويجوز أيضا أن يكون منصوبا بالإغراء ، أي والأرحام فاحفظوها وصلوها كقولك : الأسد الأسد ، وهذا التفسير يدل على تحريم قطيعة الرحم ، ويدل على وجوب صلتها . وأما القراءة بالرفع فقال صاحب " الكشاف " : الرفع على أنه مبتدأ خبره محذوف كأنه قيل : والأرحام كذلك على معنى والأرحام مما يتقى ، أو والأرحام مما يتساءل به .