المسألة الثالثة : أنه تعالى قال أولا : (
اتقوا ربكم ) ثم قال بعده : (
واتقوا الله ) وفي هذا التكرير وجوه :
الأول : تأكيد الأمر والحث عليه كقولك للرجل : اعجل اعجل ، فيكون أبلغ من قولك : اعجل .
الثاني : أنه أمر بالتقوى في الأول لمكان الإنعام بالخلق وغيره ، وفي الثاني أمر بالتقوى لمكان وقوع التساؤل به فيما يلتمس البعض من البعض .
الثالث : قال أولا : (
اتقوا ربكم ) وقال ثانيا : (
واتقوا الله ) والرب لفظ يدل على التربية والإحسان ، والإله لفظ يدل على القهر والهيبة ، فأمرهم بالتقوى بناء على الترغيب ، ثم أعاد الأمر به بناء على الترهيب كما قال : (
يدعون ربهم خوفا وطمعا ) [ السجدة : 16 ] وقال : (
ويدعوننا رغبا ورهبا ) [ الأنبياء : 90 ] كأنه قيل : إنه رباك وأحسن إليك فاتق مخالفته لأنه شديد العقاب عظيم السطوة .
المسألة الرابعة : اعلم أن التساؤل بالله وبالأرحام قيل هو مثل أن يقال : بالله أسألك ، وبالله أشفع إليك ، وبالله أحلف عليك ، إلى غير ذلك مما يؤكد المرء به مراده بمسألة الغير ، ويستعطف ذلك الغير في التماس حقه منه أو نواله ومعونته ونصرته ، وأما قراءة
حمزة فهي ظاهرة من حيث المعنى ، والتقدير : واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام ؛ لأن العادة جرت في العرب بأن أحدهم قد يستعطف غيره بالرحم فيقول : أسألك بالله والرحم ، وربما أفرد ذلك فقال : أسألك بالرحم ، وكان يكتب المشركون إلى رسول
[ ص: 135 ] الله صلى الله عليه وسلم : نناشدك الله والرحم أن لا تبعث إلينا فلانا وفلانا ، وأما القراءة بالنصب فالمعنى يرجع إلى ذلك ، والتقدير : واتقوا الله واتقوا الأرحام ، قال القاضي : وهذا أحد ما يدل على أنه قد يراد باللفظ الواحد المعاني المختلفة ؛ لأن معنى تقوى الله مخالف لمعنى تقوى الأرحام ، فتقوى الله إنما يكون بالتزام طاعته واجتناب معاصيه ، واتقاء الأرحام بأن توصل ولا تقطع فيما يتصل بالبر والإفضال والإحسان ، ويمكن أن يجاب عنه بأنه تعالى لعله تكلم بهذه اللفظة مرتين ، وعلى هذا التقدير يزول الإشكال .
المسألة الخامسة : قال بعضهم : اسم الرحم مشتق من الرحمة التي هي النعمة ، واحتج بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=16012250يقول الله تعالى : أنا الرحمن وهي الرحم اشتققت اسمها من اسمي " ووجه التشبيه أن لمكان هذه الحالة تقع الرحمة من بعض الناس لبعض . وقال آخرون : بل اسم الرحم مشتق من الرحم الذي عنده يقع الإنعام وأنه الأصل ، وقال بعضهم : بل كل واحد منهما أصل بنفسه ، والنزاع في مثل هذا قريب .
المسألة السادسة : دلت الآية على جواز المسألة بالله تعالى . روى
nindex.php?page=showalam&ids=16879مجاهد عن
عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "
من سألكم بالله فأعطوه " وعن
nindex.php?page=showalam&ids=48البراء بن عازب قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=16012252أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبع : منها إبرار القسم .
المسألة السابعة : دل قوله تعالى : (
والأرحام ) على
تعظيم حق الرحم وتأكيد النهي عن قطعها ، قال تعالى : (
فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم ) [ محمد : 22 ] وقال : (
لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة ) [ التوبة : 10 ] قيل في الأول : إنه القرابة ، وقال : (
وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا ) [ الإسراء : 23 ] وقال : (
واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا وبذي القربى واليتامى والمساكين ) [ النساء : 36 ] وعن
nindex.php?page=showalam&ids=38عبد الرحمن بن عوف : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=16012253يقول الله تعالى : أنا الرحمن وهي الرحم اشتققت اسمها من اسمي فمن وصلها وصلته ومن قطعها قطعته " وعن
nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=16012254ما من شيء أطيع الله فيه أعجل ثوابا من صلة الرحم ، وما من عمل عصي الله به أعجل عقوبة من البغي واليمين الفاجرة " . وعن
أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن
nindex.php?page=hadith&LINKID=16012255الصدقة وصلة الرحم يزيد الله بهما في العمر ويدفع بهما ميتة السوء ويدفع الله بهما المحذور والمكروه " وقال عليه الصلاة والسلام : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=16012256أفضل الصدقة على ذي الرحم الكاشح " قيل : الكاشح العدو ، فثبت بدلالة الكتاب والسنة وجوب صلة الرحم واستحقاق الثواب بها ، ثم إن أصحاب
nindex.php?page=showalam&ids=11990أبي حنيفة رضي الله عنه بنوا على هذا الأصل مسألتين :
إحداهما : أن
الرجل إذا ملك ذا رحم محرم عتق عليه ، مثل الأخ والأخت ، والعم والخال ، قال : لأنه لو بقي الملك لحل الاستخدام بالإجماع ، لكن الاستخدام إيحاش يورث قطيعة الرحم ، وذلك حرام بناء على هذا الأصل ، فوجب أن لا يبقى الملك .
وثانيهما : أن
الهبة لذي الرحم المحرم لا يجوز الرجوع فيها لأن ذلك الرجوع إيحاش يورث قطيعة الرحم ، فوجب أن لا يجوز ، والكلام في هاتين المسألتين مذكور في الخلافيات .
ثم إنه تعالى ختم هذه الآية بما يكون كالوعد والوعيد والترغيب والترهيب فقال : (
إن الله كان عليكم رقيبا ) [ النساء : 1 ] والرقيب هو المراقب الذي يحفظ عليك جميع أفعالك . ومن هذا صفته فإنه يجب أن يخاف ويرجى ، فبين تعالى أنه يعلم السر وأخفى ، وأنه إذا كان كذلك يجب أن يكون المرء حذرا خائفا فيما يأتي ويترك .