(
وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن ولا الذين يموتون وهم كفار أولئك أعتدنا لهم عذابا أليما ) .
قوله تعالى : (
وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن ولا الذين يموتون وهم كفار أولئك أعتدنا لهم عذابا أليما ) .
اعلم أنه تعالى لما ذكر شرائط التوبة المقبولة أردفها بشرح
التوبة التي لا تكون مقبولة ، وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : الآية دالة على أن
من حضره الموت وشاهد أهواله فإن توبته غير مقبولة ، وهذه المسألة مشتملة على بحثين :
البحث الأول : الذي يدل على أن توبة من وصفنا حاله غير مقبولة وجوه :
الأول : هذه الآية وهي صريحة في المطلوب .
الثاني : قوله تعالى : (
فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا ) [ غافر : 85 ] .
الثالث : قال في صفة فرعون : (
إذا أدركه الغرق قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين آلآن )
[ ص: 7 ] (
وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين ) [ يونس : 90 ، 91 ] فلم يقبل الله توبته عند مشاهدة العذاب ، ولو أنه أتى بذلك الإيمان قبل تلك الساعة بلحظة لكان مقبولا .
الرابع : قوله تعالى : (
حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون لعلي أعمل صالحا فيما تركت كلا إنها كلمة هو قائلها ) [ المؤمنون : 99 ، 100 ] .
الخامس : قوله تعالى : (
وأنفقوا من ما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين ولن يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها ) [ المنافقون : 10 ، 11 ] ، فأخبر تعالى في هذه الآيات أن التوبة لا تقبل عند حضور الموت .
السادس : روى
أبو أيوب عن النبي صلى الله عليه وسلم
أن الله تعالى يقبل توبة العبد ما لم يغرغر ، أي ما لم تتردد الروح في حلقه ، وعن
عطاء : ولو قبل موته بفواق الناقة . وعن
الحسن : أن إبليس قال حين أهبط إلى الأرض : وعزتك لا أفارق ابن آدم ما دامت روحه في جسده ، فقال : وعزتي لا أغلق عليه باب التوبة ما لم يغرغر .
واعلم أن قوله : (
حتى إذا حضر أحدهم الموت ) أي علامات نزول الموت وقربه ، وهو كقوله تعالى : (
كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت ) [ البقرة : 180 ] .
البحث الثاني : قال المحققون :
قرب الموت لا يمنع من قبول التوبة ، بل المانع من قبول التوبة مشاهدة الأحوال التي عندها يحصل العلم بالله تعالى على سبيل الاضطرار ، وإنما قلنا إن نفس القرب من الموت لا يمنع من قبول التوبة لوجوه :
الأول : أن جماعة أماتهم الله تعالى ثم أحياهم مثل قوم من
بني إسرائيل ، ومثل أولاد
أيوب عليه السلام ، ثم إنه تعالى كلفهم بعد ذلك الإحياء ، فدل هذا على أن مشاهدة الموت لا تخل بالتكليف .
الثاني : أن الشدائد التي يلقاها من يقرب موته تكون مثل الشدائد الحاصلة عند القولنج ، ومثل الشدائد التي تلقاها المرأة عند الطلق أو أزيد منها ، فإذا لم تكن هذه الشدائد مانعة من بقاء التكليف فكذا القول في تلك الشدائد .
الثالث : أن عند القرب من الموت إذا عظمت الآلام صار اضطرار العبد أشد وهو تعالى يقول : (
أمن يجيب المضطر إذا دعاه ) [ النمل : 62 ] فتزايد الآلام في ذلك الوقت بأن يكون سببا لقبول التوبة أولى من أن يكون سببا لعدم قبول التوبة ، فثبت بهذه الوجوه أن نفس القرب من الموت ونفس تزايد الآلام والمشاق ، لا يجوز أن يكون مانعا من قبول التوبة ، ونقول : المانع من قبول التوبة أن الإنسان عند القرب من الموت إذا شاهد أحوالا وأهوالا صارت معرفته بالله ضرورية عند مشاهدته تلك الأهوال ، ومتى صارت معرفته بالله ضرورية سقط التكليف عنه ، ألا ترى أن أهل الآخرة لما صارت معارفهم ضرورية سقط التكليف عنهم وإن لم يكن هناك موت ولا عقاب ؛ لأن توبتهم عند الحشر والحساب وقبل دخول النار ، لا تكون مقبولة .
واعلم أن ههنا بحثا عميقا أصوليا ، وذلك لأن أهل القيامة لا يشاهدون إلا أنهم صاروا أحياء بعد أن كانوا أمواتا ، ويشاهدون أيضا النار العظيمة وأصناف الأهوال ، وكل ذلك لا يوجب أن يصير العلم بالله ضروريا ؛ لأن العلم بأن حصول الحياة بعد أن كانت معدومة يحتاج إلى الفاعل علم نظري عند أكثر شيوخ
المعتزلة ، وبتقدير أن يقال : هذا العلم ضروري لكن العلم بأن الإحياء لا يصح من غير الله لا شك أنه نظري ، وأما العلم بأن فاعل تلك النيران العظيمة ليس إلا الله ، فهذا أيضا استدلالي ، فكيف يمكن ادعاء أن أهل الآخرة لأجل مشاهدة أهوالها يعرفون الله بالضرورة ؟ ثم هب أن الأمر كذلك ، فلم قلتم بأن العلم بالله إذا
[ ص: 8 ] كان ضروريا منع من صحة التكليف ؟ وذلك أن العبد مع علمه الضروري بوجود الإله المثيب المعاقب قد يقدم على المعصية لعلمه بأنه كريم ، وأنه لا ينفعه طاعة العبد ولا يضره ذنبه ، وإذا كان الأمر كذلك فلم قالوا : بأن هذا يوجب زوال التكليف ؟ وأيضا : فهذا الذي يقوله هؤلاء
المعتزلة من أن العلم بالله في دار التكليف يجب أن يكون نظريا ، فإذا صار ضروريا سقط التكليف : كلام ضعيف ؛ لأن من حصل في قلبه العلم بالله إن كان تجويز نقيضه قائما في قلبه ، فهذا يكون ظنا لا علما ، وإن لم يكن تجويز نقيضه قائما ، امتنع أن يكون علم آخر أقوى منه وآكد منه ، وعلى هذا التقدير لا يبقى البتة فرق بين العلم الضروري وبين العلم النظري فثبت أن هذه الأشياء التي تذكرها
المعتزلة كلمات ضعيفة واهية ، وأنه تعالى يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ، فهو بفضله وعد بقبول التوبة في بعض الأوقات ، وبعدله أخبر عن عدم قبول التوبة في وقت آخر ، وله أن يقلب الأمر فيجعل المقبول مردودا ، والمردود مقبولا (
لا يسأل عما يفعل وهم يسألون ) [ الأنبياء : 23 ] .
المسألة الثانية : أنه تعالى ذكر قسمين ، فقال في القسم الأول : (
إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ) ، وهذا مشعر بأن قبول توبتهم واجب .
وقال في القسم الثاني : (
وليست التوبة للذين يعملون السيئات ) فهذا جزم بأنه تعالى لا يقبل توبة هؤلاء فبقي بحكم التقسيم العقلي فيما بين هذين القسمين قسم ثالث : وهم الذين يجزم الله تعالى بقبول توبتهم ، ولم يجزم برد توبتهم ، فلما كان القسم الأول : هم الذين يعملون السوء بجهالة ، والقسم الثاني : هم الذين لا يتوبون إلا عند مشاهدة البأس ، وجب أن يكون القسم المتوسط بين هذين القسمين : هم الذين
يعملون السوء على سبيل العمد ، ثم يتوبون ، فهؤلاء ما أخبر الله عنهم أنه يقبل توبتهم ، وما أخبر عنهم أنه يرد توبتهم ، بل تركهم في المشيئة ، كما أنه تعالى ترك مغفرتهم في المشيئة حيث قال : (
ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ) [ النساء : 48 ] .
المسألة الثالثة : أنه تعالى لما بين أن من تاب عند حضور علامات الموت ومقدماته لا تقبل توبته قال : (
ولا الذين يموتون ) وفيه وجهان :
الأول : معناه الذين قرب موتهم ، والمعنى أنه كما أن التوبة عن المعاصي لا تقبل عند القرب من الموت ، كذلك
الإيمان لا يقبل عند القرب من الموت .
الثاني : المراد أن
الكفار إذا ماتوا على الكفر فلو تابوا في الآخرة لا تقبل توبتهم .
المسألة الرابعة : تعلقت الوعيدية بهذه الآية على صحة مذهبهم من وجهين :
الأول : قالوا إنه تعالى قال : (
وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن ولا الذين يموتون وهم كفار ) فعطف الذين يعملون السيئات على الذين يموتون وهم كفار ، والمعطوف مغاير للمعطوف عليه ، فثبت أن الطائفة الأولى ليسوا من الكفار ، ثم إنه تعالى قال في حق الكل : (
أولئك أعتدنا لهم عذابا أليما ) فهذا يقتضي شمول هذا الوعيد للكفار والفساق .
الثاني : أنه تعالى أخبر أنه لا توبة لهم عند المعاينة ، فلو كان يغفر لهم مع ترك التوبة لم يكن لهذا الإعلام معنى .
والجواب : أنا قد جمعنا جملة العمومات الوعيدية في سورة البقرة في تفسير قوله تعالى : (
بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ) [ البقرة : 81 ] وأجبنا عن تمسكهم بها وذكرنا وجوها كثيرة من الأجوبة ، ولا حاجة إلى إعادتها في كل واحد من هذه العمومات ، ثم نقول : الضمير يجب أن يعود إلى أقرب المذكورات ، وأقرب المذكورات من قوله : (
أولئك أعتدنا لهم عذابا أليما ) هو قوله : (
ولا )
[ ص: 9 ] (
الذين يموتون وهم كفار ) فلم لا يجوز أن يكون قوله : (
أعتدنا لهم عذابا أليما ) عائدا إلى الكفار فقط ؟ وتحقيق الكلام فيه أنه تعالى أخبر عن الذين لا يتوبون إلا عند الموت أن توبتهم غير مقبولة ، ثم ذكر الكافرين بعد ذلك ، فبين أن إيمانهم عند الموت غير مقبول ، ولا شك أن الكافر أقبح فعلا وأخس درجة عند الله من الفاسق ، فلا بد وأن يخصه بمزيد إذلال وإهانة فجاز أن يكون قوله : (
أولئك أعتدنا لهم عذابا أليما ) مختصا بالكافرين ، بيانا لكونهم مختصين بسبب كفرهم بمزيد العقوبة والإذلال .
أما الوجه الثاني مما عولوا عليه : فهو أنه أخبر أنه لا توبة عند المعاينة ، وإذا كان لا توبة حصل هناك تجويز العقاب وتجويز المغفرة ، وهذا لا يخلو عن نوع تخويف وهو كقوله : (
إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ) [ النساء : 48 ] على أن هذا تمسك بدليل الخطاب ،
والمعتزلة لا يقولون به ، والله أعلم .
المسألة الخامسة : أنه تعالى عطف على الذين يتوبون عند مشاهدة الموت ، الكفار ، والمعطوف مغاير للمعطوف عليه ، فهذا يقتضي أن
الفاسق من أهل الصلاة ليس بكافر ، ويبطل به قول
الخوارج : إن الفاسق كافر ، ولا يمكن أن يقال : المراد منه المنافق لأن الصحيح أن المنافق كافر ، قال تعالى : (
والله يشهد إن المنافقين لكاذبون ) [ المنافقون : 1 ] ، والله أعلم .
المسألة السادسة : أعتدنا : أي أعددنا وهيأنا ، ونظيره قوله تعالى في صفة نار جهنم : (
أعدت للكافرين ) [ البقرة : 24 ] احتج أصحابنا بهذه الآية على أن
النار مخلوقة ؛ لأن العذاب الأليم ليس إلا نار جهنم وبرده ، وقوله : (
أعتدنا ) إخبار عن الماضي ، فهذا يدل على كون النار مخلوقة من هذا الوجه ، والله أعلم .