(
يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم والله عليم حكيم ) .
(
يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم والله عليم حكيم ) .
[ ص: 54 ]
فيه مسائل :
المسألة الأولى : اللام في قوله : (
ليبين لكم ) فيه وجهان :
الأول : قالوا : إنه قد تقام اللام مقام " أن " في أردت وأمرت ، فيقال : أردت أن تذهب ، وأردت لتذهب ، وأمرتك أن تقوم ، وأمرتك لتقوم ، قال تعالى : (
يريدون ليطفئوا نور الله ) [ الصف : 8 ] يعني يريدون أن يطفئوا ، وقال : (
وأمرنا لنسلم لرب العالمين ) [ الأنعام : 71 ] .
والوجه الثاني : أن نقول : إن في الآية إضمارا ، والتقدير : يريد الله إنزال هذه الآيات ليبين لكم دينكم وشرعكم ، وكذا القول في سائر الآيات التي ذكروها ، فقوله : (
يريدون ليطفئوا نور الله ) يعني يريدون كيدهم وعنادهم ليطفئوا ، وأمرنا بما أمرنا لنسلم .
المسألة الثانية : قال بعض المفسرين : قوله : (
يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ) معناهما شيء واحد ، والتكرير لأجل التأكيد وهذا ضعيف ، والحق أن المراد من قوله : (
ليبين لكم ) هو أنه تعالى بين لنا هذه التكاليف ، وميز فيها الحلال من الحرام والحسن من القبيح .
ثم قال : (
ويهديكم سنن الذين من قبلكم ) وفيه قولان :
أحدهما : أن هذا دليل على أن كل ما بين تحريمه لنا وتحليله لنا من النساء في الآيات المتقدمة ، فقد كان الحكم أيضا كذلك في جميع الشرائع والملل .
والثاني : أنه ليس المراد ذلك ، بل المراد أنه تعالى يهديكم سنن الذين من قبلكم في بيان ما لكم فيه من المصلحة كما بينه لهم ، فإن
الشرائع والتكاليف وإن كانت مختلفة في نفسها ، إلا أنها متفقة في باب المصالح .
وفيه قول ثالث : وهو أن المعنى : أنه يهديكم سنن الذين من قبلكم من أهل الحق لتجتنبوا الباطل وتتبعوا الحق .
ثم قال تعالى : (
ويتوب عليكم ) قال القاضي : معناه أنه تعالى كما أراد منا نفس الطاعة ، فلا جرم بينها وأزال الشبهة عنها ، كذلك وقع التقصير والتفريط منا ، فيريد أن يتوب علينا ؛ لأن المكلف قد يطيع فيستحق الثواب ، وقد يعصي فيحتاج إلى التلافي بالتوبة .
واعلم أن في الآية إشكالا : وهو أن الحق إما أن يكون ما يقول
أهل السنة من أن
فعل العبد مخلوق لله تعالى ، وإما أن يكون الحق ما تقوله
المعتزلة من أن فعل العبد ليس مخلوقا لله تعالى ، والآية مشكلة على كلا القولين . أما على القول الأول : فلأن على هذا القول كل ما يريده الله تعالى فإنه يحصل ، فإذا أراد أن يتوب علينا وجب أن يحصل التوبة لكلنا ، ومعلوم أنه ليس كذلك ، وأما على القول الثاني : فهو تعالى يريد منا أن نتوب باختيارنا وفعلنا ، وقوله : (
ويتوب عليكم ) ظاهره مشعر بأنه تعالى هو الذي يخلق التوبة فينا ويحصل لنا هذه التوبة ، فهذه الآية مشكلة على كلا القولين .
والجواب أن نقول : إن قوله : (
ويتوب عليكم ) صريح في أنه تعالى هو الذي يفعل التوبة فينا ، والعقل أيضا مؤكد له ؛ لأن
التوبة عبارة عن الندم في الماضي ، والعزم على عدم العود في المستقبل ، والندم والعزم من باب الإرادات ، والإرادة لا يمكن إرادتها ، وإلا لزم التسلسل ، فإذن الإرادة يمتنع أن تكون فعل الإنسان ، فعلمنا أن هذا الندم وهذا العزم لا يحصلان إلا بتخليق الله تعالى ، فصار هذا البرهان العقلي دالا على صحة
[ ص: 55 ] ما أشعر به ظاهر القرآن ، وهو أنه تعالى هو الذي يتوب علينا ، فأما قوله : لو تاب علينا لحصلت هذه التوبة ، فنقول : قوله : (
ويتوب عليكم ) خطاب مع الأمة ، وقد تاب عليهم في نكاح الأمهات والبنات وسائر المنهيات المذكورة في هذه الآيات ، وحصلت هذه التوبة لهم ، فزال الإشكال ، والله أعلم .
ثم قال تعالى : (
والله عليم حكيم ) أي عليم بأحوالكم ، حكيم في كل ما يفعله بكم ويحكم عليكم .