صفحة جزء
ثم قال : ( إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ) وفيه مسائل :

المسألة الأولى : قرأ عاصم وحمزة والكسائي : ( تجارة ) بالنصب ، والباقون بالرفع . أما من نصب فعلى " كان " الناقصة ، والتقدير : إلا أن تكون التجارة تجارة ، وأما من رفع فعلى " كان " التامة ، والتقدير : إلا أن توجد وتحصل تجارة . وقال الواحدي : والاختيار الرفع ؛ لأن من نصب أضمر التجارة فقال : تقديره إلا أن تكون التجارة تجارة ، والإضمار قبل الذكر ليس بقوي وإن كان جائزا .

المسألة الثانية : قوله : ( إلا ) فيه وجهان :

الأول : أنه استثناء منقطع ؛ لأن التجارة عن تراض ليس من جنس أكل المال بالباطل ، فكان " إلا " ههنا بمعنى " بل " ، والمعنى : لكن يحل أكله بالتجارة عن تراض .

الثاني : أن من الناس من قال : الاستثناء متصل ، وأضمر شيئا فقال : التقدير : لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وإن تراضيتم كالربا وغيره إلا أن تكون تجارة عن تراض .

واعلم أنه كما يحل المستفاد من التجارة ، فقد يحل أيضا المال المستفاد من الهبة ، والوصية ، والإرث ، وأخذ الصدقات ، والمهر ، وأروش الجنايات ، فإن أسباب الملك كثيرة سوى التجارة .

[ ص: 58 ] فإن قلنا : إن الاستثناء منقطع فلا إشكال ، فإنه تعالى ذكر ههنا سببا واحدا من أسباب الملك ولم يذكر سائرها ، لا بالنفي ولا بإثبات .

وإن قلنا : الاستثناء متصل . كان ذلك حكما بأن غير التجارة لا يفيد الحل ، وعند هذا لا بد إما من النسخ أو التخصيص .

المسألة الثالثة : قال الشافعي - رحمة الله عليه - : النهي في المعاملات يدل على البطلان ، وقال أبو حنيفة - رضي الله عنه - : لا يدل عليه . واحتج الشافعي على صحة قوله بوجوه :

الأول : أن جميع الأموال مملوكة لله تعالى ، فإذا أذن لبعض عبيده في بعض التصرفات كان ذلك جاريا مجرى ما إذا وكل الإنسان وكيلا في بعض التصرفات ، ثم إن الوكيل إذا تصرف على خلاف قول الموكل فذاك غير منعقد بالإجماع ، فإذا كان التصرف الواقع على خلاف قول المالك المجازي لا ينعقد فبأن يكون التصرف الواقع على خلاف قول المالك الحقيقي غير منعقد كان أولى .

وثانيها : أن هذه التصرفات الفاسدة إما أن تكون مستلزمة لدخول المحرم المنهي عنه في الوجود ، وإما أن لا تكون ، فإن كان الأول وجب القول ببطلانها قياسا على التصرفات الفاسدة .

والجامع السعي في أن لا يدخل منشأ النهي في الوجود ، وإن كان الثاني وجب القول بصحتها ، قياسا على التصرفات الصحيحة ، والجامع كونها تصرفات خالية عن المفسد ، فثبت أنه لا بد من وقوع التصرف على هذين الوجهين . فأما القول بتصرف لا يكون صحيحا ولا باطلا فهو محال . وثالثها : أن قوله : لا تبيعوا الدرهم بدرهمين ، كقوله : لا تبيعوا الحر بالعبد ، فكما أن هذا النهي باللفظ لكنه نسخ للشريعة ، فكذا الأول ، وإذا كان ذلك نسخا للشريعة بطل كونه مفيدا للحكم ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية