النوع العاشر : من التكاليف المذكورة في هذه السورة .
(
يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا )
قوله تعالى : (
ياأيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا )
في الآية مسائل :
المسألة الأولى : ذكروا في سبب النزول وجهين :
الأول : أن جماعة من أفاضل الصحابة صنع لهم
nindex.php?page=showalam&ids=38عبد الرحمن بن عوف طعاما وشرابا حين كانت الخمر مباحة ، فأكلوا وشربوا ، فلما ثملوا جاء وقت صلاة المغرب ، فقدموا أحدهم ليصلي بهم ، فقرأ : أعبد ما تعبدون وأنتم عابدون ما أعبد . فنزلت هذه الآية ، فكانوا لا يشربون في أوقات الصلوات ، فإذا صلوا العشاء شربوها ، فلا يصبحون إلا وقد ذهب عنهم السكر وعلموا ما يقولون ، ثم نزل تحريمها على الإطلاق في سورة المائدة . وعن
عمر - رضي الله عنه - أنه لما بلغه ذلك قال : اللهم إن الخمر تضر بالعقول والأموال ، فأنزل فيها أمرك ، فصبحهم الوحي بآية المائدة .
الثاني : قال
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس : نزلت في جماعة من أكابر الصحابة قبل
تحريم الخمر ، كانوا يشربونها ثم يأتون المسجد للصلاة مع الرسول - صلى الله عليه وسلم - فنهاهم الله عنه .
المسألة الثانية : في لفظ الصلاة قولان :
أحدهما : المراد منه المسجد ، وهو قول
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس nindex.php?page=showalam&ids=10وابن مسعود والحسن ، وإليه ذهب
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي .
واعلم أن إطلاق لفظ الصلاة على المسجد محتمل ، ويدل عليه وجهان :
الأول : أنه يكون من باب حذف المضاف ، أي لا تقربوا موضع الصلاة ، وحذف المضاف مجاز شائع .
والثاني : قوله : (
لهدمت صوامع وبيع وصلوات ) [ الحج : 40 ] والمراد بالصلوات مواضع الصلوات ، فثبت أن إطلاق لفظ الصلاة والمراد به المسجد جائز .
والقول الثاني : وعليه الأكثرون : أن المراد بالصلاة في هذه الآية نفس الصلاة ، أي لا تصلوا إذا كنتم سكارى .
واعلم أن فائدة الخلاف تظهر في حكم شرعي ، وهو أن على التقدير الأول يكون المعنى : لا تقربوا المسجد وأنتم سكارى ولا جنبا إلا عابري سبيل ، وعلى هذا الوجه يكون الاستثناء دالا على أنه يجوز
للجنب العبور في المسجد ، وهو قول
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي . وأما على القول الثاني فيكون المعنى : لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى ، ولا تقربوها
[ ص: 88 ] حال كونكم جنبا إلا عابري سبيل ، والمراد بعابر السبيل المسافر ، فيكون هذا الاستثناء دليلا على أنه يجوز
للجنب الإقدام على الصلاة عند العجز عن الماء . قال أصحاب
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي : هذا القول الأول أرجح ، ويدل عليه وجوه :
الأول : أنه قال : (
لا تقربوا الصلاة ) والقرب والبعد لا يصحان على نفس الصلاة على سبيل الحقيقة ، إنما يصحان على المسجد .
الثاني : أنا لو حملناه على ما قلنا لكان الاستثناء صحيحا ، أما لو حملناه على ما قلتم لم يكن صحيحا ؛ لأن من لم يكن عابر سبيل وقد عجز عن استعمال الماء بسبب المرض الشديد - فإنه يجوز له الصلاة بالتيمم ، وإذا كان كذلك كان حمل الآية على ذلك أولى .
الثالث : أنا إذا حملنا عابر السبيل على الجنب المسافر فهذا إن كان واجدا للماء لم يجز له القرب من الصلاة البتة ، فحينئذ يحتاج إلى إضمار هذا الاستثناء في الآية ، وإن لم يكن واجدا للماء لم يجز له الصلاة إلا مع التيمم ، فيفتقر إلى إضمار هذا الشرط في الآية ، وأما على ما قلناه فإنا لا نفتقر إلى إضمار شيء في الآية ، فكان قولنا أولى .
الرابع : أن الله تعالى ذكر حكم السفر وعدم الماء وجواز التيمم بعد هذا ، فلا يجوز حمل هذا على حكم مذكور في آية بعد هذه الآية ، والذي يؤكده أن القراء كلهم استحبوا الوقف عند قوله : (
حتى تغتسلوا ) ثم يستأنف قوله : (
وإن كنتم مرضى ) لأنه حكم آخر . وأما إذا حملنا الآية على ما ذكرنا لم نحتج فيه إلى هذه الإلحاقات ، فكان ما قلناه أولى . ولمن نصر القول الثاني أن يقول : إن قوله تعالى : (
حتى تعلموا ما تقولون ) يدل على أن المراد من قوله : (
لا تقربوا الصلاة ) نفس الصلاة ؛ لأن المسجد ليس فيه قول مشروع يمنع السكر منه ، أما الصلاة ففيها أقوال مخصوصة يمنع السكر منها ، فكان حمل الآية على هذا أولى ، وللقائل الأول أن يجيب بأن الظاهر أن الإنسان إنما يذهب إلى المسجد لأجل الصلاة ، فما يخل بالصلاة كان كالمانع من الذهاب إلى المسجد ؛ فلهذا ذكر هذا المعنى .
المسألة الثالثة : قال
الواحدي - رحمه الله - : السكارى جمع سكران ، وكل نعت على فعلان فإنه يجمع على : فعالى وفعالى ، مثل كسالى وكسالى ، وأصل السكر في اللغة سد الطريق ، ومن ذلك سكر البثق وهو سده ، وسكرت عينه سكرا إذا تحيرت ، ومنه قوله تعالى : (
إنما سكرت أبصارنا ) [ الحجر : 15 ] أي غشيت فليس ينفذ نورها ولا تدرك الأشياء على حقيقتها ، ومن ذلك سكر الماء وهو رده على سننه في الجري . والسكر من الشراب وهو أن ينقطع عما عليه من النفاذ حال الصحو ، فلا ينفذ رأيه على حد نفاذه في حال صحوه . إذا عرفت هذا فنقول : في لفظ السكارى في هذه الآية قولان :
الأول : المراد منه السكر من الخمر ، وهو نقيض الصحو ، وهو قول الجمهور من الصحابة والتابعين .
والقول الثاني : وهو قول
الضحاك : وهو أنه ليس المراد منه سكر الخمر ، إنما المراد منه سكر النوم ، قال : ولفظ السكر يستعمل في النوم ، فكان هذا اللفظ محتملا له ، والدليل دل عليه ، فوجب المصير إليه ، أما بيان أن اللفظ محتمل له فمن وجهين :
الأول : ما ذكرنا : أن لفظ
السكر في أصل اللغة عبارة عن سد الطريق ، ولا شك أن عند النوم تمتلئ مجاري الروح من الأبخرة الغليظة فتنسد تلك المجاري بها ، ولا ينفذ الروح الباصر والسامع إلى ظاهر البدن .
الثاني : قول
nindex.php?page=showalam&ids=14899الفرزدق :
من السير والإدلاج يحسب أنما سقاه الكرى في كل منزلة خمرا
وإذا ثبت أن اللفظ محتمل له ، فنقول : الدليل دل عليه ، وبيانه من وجوه :
الأول : أن قوله تعالى :
[ ص: 89 ] (
لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ) ظاهره أنه تعالى نهاهم عن القرب من الصلاة حال صيرورتهم بحيث لا يعلمون ما يقولون ، وتوجيه التكليف على مثل هذا الإنسان ممتنع بالعقل والنقل ، أما العقل فلأن تكليف مثل هذا الإنسان يقتضي تكليف ما لا يطاق ، وأما النقل فهو قوله - عليه الصلاة والسلام - : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=16012385رفع القلم عن ثلاث : عن الصبي حتى يبلغ ، وعن المجنون حتى يفيق ، وعن النائم حتى يستيقظ " ولا شك أن هذا السكران يكون مثل المجنون ، فوجب ارتفاع التكليف عنه .
والحجة الثانية : قوله - عليه الصلاة والسلام - : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=16012386إذا نعس أحدكم وهو في الصلاة فليرقد حتى يذهب عنه النوم ، فإنه إذا صلى وهو ينعس لعله يذهب ليستغفر فيسب نفسه " هذا تقرير قول
الضحاك .
واعلم أن الصحيح هو القول الأول ، ويدل عليه وجهان :
الأول : أن لفظ السكر حقيقة في السكر من شرب الخمر ، والأصل في الكلام الحقيقة ، فأما حمله على السكر من العشق ، أو من الغضب أو من الخوف ، أو من النوم ، فكل ذلك مجاز ، وإنما يستعمل مقيدا . قال تعالى : (
وجاءت سكرة الموت ) [ ق : 19 ] وقال : (
وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ) [ الحج : 2 ] .
الثاني : أن جميع المفسرين اتفقوا على أن هذه الآية إنما نزلت في شرب الخمر ، وقد ثبت في أصول الفقه أن الآية إذا نزلت في واقعة معينة ولأجل سبب معين ، امتنع أن لا يكون ذلك السبب مرادا بتلك الآية ، فأما قول
الضحاك كيف يتناوله النهي حال كونه سكران ؟ فنقول : وهذا أيضا لازم عليكم ، لأنه يقال : كيف يتناوله النهي وهو نائم لا يفهم شيئا ؟ ثم الجواب عنه : أن المراد من الآية النهي عن الشرب المؤدي إلى السكر المخل بالفهم حال وجوب الصلاة عليهم ، فخرج اللفظ عن النهي عن الصلاة في حال السكر مع أن المراد منه النهي عن الشرب الموجب للسكر في وقت الصلاة . وأما الحديث الذي تمسك به فذاك لا يدل على أن السكر المذكور في الآية هو النوم .
المسألة الرابعة : قال بعضهم : هذه الآية منسوخة بآية المائدة ، وأقول : الذي يمكن ادعاء النسخ فيه أنه يقال : نهى عن قربان الصلاة حال السكر ممدودا إلى غاية أن يصير بحيث يعلم ما يقول ، والحكم الممدود إلى غاية يقتضي انتهاء ذلك الحكم عند تلك الغاية ، فهذا يقتضي جواز قربان الصلاة مع السكر إذا صار بحيث يعلم ما يقول ، ومعلوم أن الله تعالى لما حرم الخمر بآية المائدة فقد رفع هذا الجواز ، فثبت أن آية المائدة ناسخة لبعض مدلولات هذه الآية . هذا ما خطر ببالي في تقرير هذا النسخ .
والجواب عنه : أنا بينا أن حاصل هذا النهي راجع إلى النهي عن الشرب الموجب للسكر عند القرب من الصلاة ، وتخصيص الشيء بالذكر لا يدل على نفي الحكم عما عداه إلا على سبيل الظن الضعيف ، ومثل هذا لا يكون نسخا .
المسألة الخامسة : قال صاحب " الكشاف " : قرئ " سكارى " بفتح السين ، و " سكرى " على أن يكون جمعا نحو : هلكى ، وجوعى .
ثم قال تعالى : (
ولا جنبا إلا عابري سبيل ) قوله : ( ولا جنبا ) عطف على قوله : (
وأنتم سكارى ) والواو ههنا للحال ، والتقدير : لا تقربوا الصلاة حال ما تكونون سكارى ، وحال ما تكونون جنبا ، والجنب يستوي فيه الواحد والجمع ، المذكر والمؤنث ؛ لأنه اسم جرى مجرى المصدر الذي هو الإجناب . وقد ذكرنا أن أصل الجنابة البعد ، وقيل للذي يجب عليه الغسل : جنب ؛ لأنه يجتنب الصلاة والمسجد وقراءة القرآن حتى
[ ص: 90 ] يتطهر . ثم قال : (
إلا عابري سبيل ) وقد ذكرنا أن فيه قولين :
أحدهما : أن هذا العبور المراد منه العبور في المسجد .
الثاني : أن المراد بقوله : (
إلا عابري سبيل ) المسافرون ، وبينا كيفية ترجيح أحدهما على الآخر .