النوع الثاني : من ضلالاتهم : ما ذكره الله تعالى بقوله : (
ويقولون سمعنا وعصينا ) وفيه وجهان :
الأول : أن
النبي - عليه السلام - كان إذا أمرهم بشيء قالوا في الظاهر : سمعنا ، وقالوا في أنفسهم : وعصينا .
والثاني : أنهم كانوا يظهرون قولهم : سمعنا وعصينا ، إظهارا للمخالفة ، واستحقارا للأمر .
النوع الثالث : من ضلالتهم قوله : (
واسمع غير مسمع ) .
واعلم أن هذه الكلمة ذو وجهين يحتمل المدح والتعظيم ، ويحتمل الإهانة والشتم . أما أنه يحتمل المدح فهو أن يكون المراد : اسمع غير مسمع مكروها ، وأما أنه محتمل للشتم والذم فذاك من وجوه :
الأول : أنهم كانوا يقولون للنبي - صلى الله عليه وسلم - : اسمع ، ويقولون في أنفسهم : لا سمعت ، فقوله : (
غير مسمع ) معناه : غير سامع ، فإن السامع مسمع ، والمسمع سامع .
الثاني : غير مسمع ، أي غير مقبول منك ، ولا تجاب إلى ما تدعو إليه ، ومعناه غير مسمع جوابا يوافقك ، فكأنك ما أسمعت شيئا .
الثالث : اسمع غير مسمع كلاما ترضاه ، ومتى كان كذلك فإن الإنسان لا يسمعه لنبو سمعه عنه ، فثبت بما ذكرنا أن هذه الكلمة محتملة للذم والمدح ، فكانوا يذكرونها لغرض الشتم .
[ ص: 96 ]
النوع الرابع : من ضلالاتهم قولهم : (
وراعنا ليا بألسنتهم وطعنا في الدين ) أما تفسير (
راعنا ) فقد ذكرناه في سورة البقرة وفيه وجوه :
الأول : أن هذه كلمة كانت تجري بينهم على جهة الهزء والسخرية ؛ فلذلك نهى المسلمون أن يتلفظوا بها في حضرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - .
الثاني : قوله : (
راعنا ) معناه أرعنا سمعك ، أي اصرف سمعك إلى كلامنا وأنصت لحديثنا وتفهم ، وهذا مما لا يخاطب به الأنبياء عليهم السلام ، بل إنما يخاطبون بالإجلال والتعظيم .
الثالث : كانوا يقولون راعنا ، ويوهمونه في ظاهر الأمر أنهم يريدون أرعنا سمعك ، وكانوا يريدون سبه بالرعونة في لغتهم .
الرابع : أنهم كانوا يلوون ألسنتهم حتى يصير قولهم : (
راعنا ) راعينا ، وكانوا يريدون أنك كنت ترعى أغناما لنا ، وقوله : (
ليا بألسنتهم ) قال
الواحدي : أصل " ليا " لويا ، لأنه من لويت ، ولكن الواو أدغمت في الياء لسبقها بالسكون ، ومثله الطي . وفي تفسيره وجوه :
الأول : قال
الفراء : كانوا يقولون : راعنا ويريدون به الشتم ، فذاك هو اللي ، وكذلك قولهم : (
غير مسمع ) وأرادوا به لا سمعت ، فهذا هو اللي .
الثاني : أنهم كانوا يصلون بألسنتهم ما يضمرونه من الشتم إلى ما يظهرونه من التوقير على سبيل النفاق .
الثالث : لعلهم كانوا يفتلون أشداقهم وألسنتهم عند ذكر هذا الكلام على سبيل السخرية ، كما جرت عادة من يهزأ بإنسان بمثل هذه الأفعال ، ثم بين تعالى أنهم إنما يقدمون على هذه الأشياء لطعنهم في الدين ؛ لأنهم كانوا يقولون لأصحابهم : إنما نشتمه ولا يعرف ، ولو كان نبيا لعرف ذلك ، فأظهر الله تعالى ذلك فعرفه خبث ضمائرهم ، فانقلب ما فعلوه طعنا في نبوته دلالة قاطعة على نبوته ؛ لأن الإخبار عن الغيب معجز .
فإن قيل : كيف جاءوا بالقول المحتمل للوجهين بعدما حرفوا وقالوا : سمعنا وعصينا ؟
والجواب من وجهين :
الأول : أنا حكينا عن بعض المفسرين أنه قال : إنهم ما كانوا يظهرون قولهم : (
وعصينا ) بل كانوا يقولونه في أنفسهم .
والثاني : هب أنهم أظهروا ذلك إلا أن جميع الكفرة كانوا يواجهونه بالكفر والعصيان ، ولا يواجهونه بالسب والشتم .
ثم قال تعالى : (
ولو أنهم قالوا سمعنا وأطعنا واسمع وانظرنا لكان خيرا لهم وأقوم ) والمعنى أنهم لو قالوا بدل قولهم سمعنا وعصينا : سمعنا وأطعنا لعلمهم بصدقك ولإظهارك الدلائل والبينات مرات بعد مرات ، وبدل قولهم : (
واسمع غير مسمع ) قولهم : واسمع ، وبدل قولهم : (
راعنا ) قولهم : (
انظرنا ) أي اسمع منا ما نقول ، وانظرنا حتى نتفهم عنك لكان خيرا لهم عند الله وأقوم ، أي أعدل وأصوب ، ومنه يقال : رمح قويم أي مستقيم ؛ وقومت الشيء من عوج فتقوم .
ثم قال : (
ولكن لعنهم الله بكفرهم ) والمراد أنه تعالى إنما لعنهم بسبب كفرهم .
ثم قال : (
فلا يؤمنون إلا قليلا ) وفيه قولان :
أحدهما : أن القليل صفة للقوم ، والمعنى فلا يؤمن منهم إلا أقوام قليلون . ثم منهم من قال : كان ذلك القليل
nindex.php?page=showalam&ids=106عبد الله بن سلام وأصحابه ، وقيل : هم الذين علم الله منهم أنهم يؤمنون بعد ذلك .
والقول الثاني : أن
القليل صفة للإيمان ، والتقدير : فلا يؤمنون إلا إيمانا قليلا ، فإنهم كانوا يؤمنون بالله والتوراة
وموسى ، ولكنهم كانوا يكفرون بسائر الأنبياء ، ورجح
أبو علي الفارسي هذا القول على الأول ، قال : لأن " قليلا " لفظ مفرد ، ولو أريد به ناس لجمع نحو قوله : (
إن هؤلاء لشرذمة قليلون ) [ الشعراء : 54 ] ويمكن أن
[ ص: 97 ] يجاب عنه بأنه قد جاء فعيل مفردا ، والمراد به الجمع ، قال تعالى : (
وحسن أولئك رفيقا ) [ النساء : 69 ] وقال : (
ولا يسأل حميم حميما يبصرونهم ) [ المعارج : 11 ] فدل عود الذكر مجموعا إلى القبيلين على أنه أريد بهما الكثرة .