الفصل الثامن
في
الأسماء التي اختلف العقلاء فيها أنها هل هي
من أسماء الذات أو من أسماء الصفات
هذا البحث إنما ظهر من المنازعة القائمة بين أهل التشبيه وأهل التنزيه ، وذلك لأن أهل التشبيه يقولون : الموجود إما أن يكون متحيزا ، وإما أن يكون حالا في المتحيز ، أما الذي لا يكون متحيزا ولا حالا في المتحيز - فكان خارجا عن القسمين - ، فذاك محض العدم ، وأما أهل التوحيد والتقديس فيقولون : أما المتحيز فهو منقسم ، وكل منقسم فهو محتاج ، فكل متحيز هو محتاج ، فما لا يكون محتاجا امتنع أن يكون متحيزا ، وأما الحال في المتحيز فهو أولى بالاحتياج ، فواجب الوجود لذاته يمتنع أن يكون متحيزا أو حالا في المتحيز .
إذا عرفت هذا الأصل فنقول : ههنا ألفاظ ظواهرها مشعرة بالجسمية والحصول في الحيز والمكان : فمنها " العظيم " ، وذلك لأن أهل التشبيه قالوا : معناه أن ذاته أعظم في الحجمية والمقدار من العرش ومن كل ما تحت العرش ، ومنها " الكبير " وما يشتق منه ، وهو لفظ " الأكبر " ولفظ " الكبرياء " ولفظ " المتكبر " .
واعلم أني ما رأيت أحدا من المحققين بين الفرق بينهما ، إلا أن الفرق حاصل في التحقيق من وجوه :
الأول : أنه جاء في الأخبار الإلهية
nindex.php?page=hadith&LINKID=16011173أنه تعالى يقول : الكبرياء ردائي والعظمة إزاري ، فجعل الكبرياء قائما مقام الرداء ، والعظمة قائمة مقام الإزار ، ومعلوم أن الرداء أرفع درجة من الإزار ، فوجب أن يكون صفة الكبرياء أرفع حالا من صفة العظمة .
والثاني : أن الشريعة فرقت بين الحالين ، فإن المعتاد في دين الإسلام أن يقال في تحريمة الصلاة " الله أكبر " ولم يقل أحد " الله أعظم " ولولا التفاوت لما حصلت هذه التفرقة .
الثالث : أن الألفاظ المشتقة من الكبير مذكورة في حق الله تعالى كالأكبر والمتكبر بخلاف العظيم ، فإن لفظ المتعظم غير مذكور في حق الله .
واعلم أن الله تعالى أقام كل واحدة من هاتين اللفظتين مقام الأخرى ، فقال : (
ولا يئوده حفظهما وهو العلي العظيم ) [ البقرة : 255 ] ، وقال في آية أخرى : (
حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير ) [ سبأ : 32 ] إذا عرفت هذا فالمباحث السابقة مشعرة بالفرق بين العظيم وبين الكبير ، وهاتان الآيتان مشعرتان بأنه لا فرق بينهما ، فهذه العقدة يجب البحث عنها فنقول ومن الله الإرشاد
[ ص: 123 ] والتعليم : يشبه أن يكون الكبير في ذاته كبيرا سواء استكبره غيره أم لا ، وسواء عرف هذه الصفة أحد أو لا ، وأما العظمة فهي عبارة عن كونه بحيث يستعظمه غيره ، وإذا كان كذلك كانت الصفة الأولى ذاتية والثانية عرضية والذاتي أعلى وأشرف من العرضي ، فهذا هو الممكن في هذا المقام ، والعلم عند الله .
ومن الأسماء المشعرة بالجسمية والجهة الألفاظ المشتقة من " العلو " فمنها قوله تعالى : (
العلي ) [ البقرة : 255 ] ، ومنها قوله : (
سبح اسم ربك الأعلى ) [ الأعلى : 1 ] ، ومنها المتعالي ومنها اللفظ المذكور عند الكل على سبيل الإطباق وهو أنهم كلما ذكروه أردفوا ذلك الذكر بقولهم : " تعالى " لقوله تعالى في أول سورة النحل : (
سبحانه وتعالى عما يشركون ) [ النحل : 1 ] إذا عرفت هذا فالقائلون بأنه في الجهة والمكان قالوا : معنى علوه وتعاليه كونه موجودا في جهة فوق ، ثم هؤلاء منهم من قال إنه جالس فوق العرش ، ومنهم من قال : إنه مباين للعرش ببعد متناه ، ومنهم من قال : إنه مباين للعرش ببعد غير متناه ، وكيف كان فإن المشبهة حملوا لفظ العظيم والكبير على الجسمية والمقدار وحملوا لفظ العلي على العلو في المكان والجهة ، وأما أهل التنزيه والتقديس فإنهم حملوا العظيم والكبير على وجوه لا تفيد الجسمية والمقدار :
فأحدها : أنه عظيم بحسب مدة الوجود ، وذلك لأنه أزلي أبدي ، وذلك هو نهاية العظمة والكبرياء في الوجود والبقاء والدوام .
وثانيها : أنه عظيم في العلم والعمل .
وثالثها : أنه عظيم في الرحمة والحكمة .
ورابعها : أنه عظيم في كمال القدرة ، وأما العلو فأهل التنزيه يحملون هذا اللفظ على كونه منزها عن صفات النقائص والحاجات .
إذا عرفت هذا فلفظ العظيم والكبير عند المشبهة من أسماء الذات ، وعند أهل التوحيد من أسماء الصفات ، وأما لفظ العلي فعند الكل من أسماء الصفات ، إلا أنه عند المشبهة يفيد الحصول في الحيز الذي هو العلو الأعلى ، وعند أهل التوحيد يفيد كونه منزها عن كل ما لا يليق بالإلهية ، فهذا تمام البحث في هذا الباب .