[ ص: 136 ] (
ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا ذلك الفضل من الله وكفى بالله عليما ) .
قوله تعالى : (
ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا ذلك الفضل من الله وكفى بالله عليما )
اعلم أنه تعالى لما أمر بطاعة الله وطاعة الرسول بقوله : (
ياأيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ) ثم زيف طريقة الذين تحاكموا إلى الطاغوت وصدوا عن الرسول ، ثم أعاد الأمر بطاعة الرسول مرة أخرى فقال : (
وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله ) ثم رغب في تلك الطاعة بقوله : (
لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا وإذا لآتيناهم من لدنا أجرا عظيما ولهديناهم صراطا مستقيما ) أكد
الأمر بطاعة الله وطاعة الرسول في هذه الآية مرة أخرى فقال : (
ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين ) إلى آخر الآية وههنا مسائل :
المسألة الأولى : ذكروا في سبب النزول وجوها :
الأول : روى جمع من المفسرين
أن nindex.php?page=showalam&ids=99ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم كان شديد الحب لرسول الله صلى الله عليه وسلم قليل الصبر عنه ، فأتاه يوما وقد تغير وجهه ونحل جسمه وعرف الحزن في وجهه ، فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حاله ، فقال يا رسول الله ما بي وجع غير أني إذا لم أرك اشتقت إليك واستوحشت وحشة شديدة حتى ألقاك ، فذكرت الآخرة فخفت أن لا أراك هناك ، لأني إن أدخلت الجنة فأنت تكون في درجات النبيين وأنا في درجة العبيد فلا أراك ، وإن أنا لم أدخل الجنة فحينئذ لا أراك أبدا ، فنزلت هذه الآية .
الثاني : قال
السدي :
إن ناسا من الأنصار قالوا : يا رسول الله إنك تسكن الجنة في أعلاها ، ونحن نشتاق إليك ، فكيف نصنع ؟ فنزلت الآية .
الثالث : قال
مقاتل :
نزلت في رجل من الأنصار قال للنبي صلى الله عليه وسلم : يا رسول الله إذا خرجنا من عندك إلى أهالينا اشتقنا إليك ، فما ينفعنا شيء حتى نرجع إليك ، ثم ذكرت درجتك في الجنة ، فكيف لنا برؤيتك إن دخلنا الجنة ؟ فأنزل الله هذه الآية ، فلما توفي النبي صلى الله عليه وسلم أتى الأنصار ولده وهو في حديقة له فأخبره بموت النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : اللهم أعمني حتى لا أرى شيئا بعده إلى أن ألقاه ، فعمي مكانه ، فكان يحب النبي حبا شديدا فجعله الله معه في الجنة .
الرابع : قال
الحسن :
إن المؤمنين قالوا للنبي عليه السلام : ما لنا منك إلا الدنيا ، فإذا كانت الآخرة رفعت في الأولى فحزن النبي صلى الله عليه وسلم وحزنوا ، فنزلت هذه الآية . قال المحققون : لا ننكر صحة هذه الروايات إلا أن سبب نزول الآية يجب أن يكون شيئا أعظم من ذلك ، وهو
البعث على الطاعة والترغيب فيها ، فإنك تعلم أن
خصوص السبب لا يقدح في عموم اللفظ ، فهذه الآية عامة في حق جميع المكلفين ، وهو أن كل
من أطاع الله وأطاع الرسول فقد فاز بالدرجات العالية والمراتب الشريفة عند الله تعالى .
المسألة الثانية : ظاهر قوله : (
ومن يطع الله والرسول ) يوجب الاكتفاء بالطاعة الواحدة . لأن اللفظ الدال على الصفة يكفي في العمل به في جانب الثبوت حصول ذلك المسمى مرة واحدة .
[ ص: 137 ]
قال القاضي : لا بد من حمل هذا على غير ظاهره ، وأن
تحمل الطاعة على فعل المأمورات وترك جميع المنهيات ، إذ لو حملناه على الطاعة الواحدة لدخل فيه الفساق والكفار ؛ لأنهم قد يأتون بالطاعة الواحدة . وعندي فيه وجه آخر ، وهو أنه ثبت في أصول الفقه أن الحكم المذكور عقيب الصفة مشعر بكون ذلك الحكم معللا بذلك الوصف ، إذا ثبت هذا فنقول : قوله : (
ومن يطع الله ) أي ومن يطع الله في كونه إلها ، وطاعة الله في كونه إلها هو معرفته والإقرار بجلاله وعزته وكبريائه وصمديته ، فصارت هذه الآية تنبيها على أمرين عظيمين من أحوال المعاد :
فالأول : هو أن
منشأ جميع السعادات يوم القيامة إشراق الروح بأنوار معرفة الله ، وكل من كانت هذه الأنوار في قلبه أكثر ، وصفاؤها أقوى ، وبعدها عن التكدر بمحبة عالم الأجسام أتم كان إلى السعادة أقرب وإلى الفوز بالنجاة أوصل .
والثاني : أنه تعالى ذكر في الآية المتقدمة وعد أهل الطاعة بالأجر العظيم والثواب الجزيل والهداية إلى الصراط المستقيم ، ثم ذكر في هذه الآية وعدهم بكونهم مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ، وهذا الذي وقع به في الختم لا بد أن يكون أشرف وأعلى مما قبله ، ومعلوم أنه ليس المراد من كون هؤلاء معهم هو أنهم يكونون في عين تلك الدرجات ، لأن هذا ممتنع ، فلا بد وأن يكون معناه أن الأرواح الناقصة إذا استكملت علائقها مع الأرواح الكاملة في الدنيا لسبب الحب الشديد ، فإذا فارقت هذا العالم ووصلت إلى عالم الآخرة بقيت تلك العلائق الروحانية هناك ، ثم تصير تلك الأرواح الصافية كالمرايا المجلوة المتقابلة ، فكأن هذه المرايا ينعكس الشعاع من بعضها على بعض ، وبسبب هذه الانعكاسات تصير أنوارها في غاية القوة ، فكذا القول في تلك الأرواح فإنها لما كانت مجلوة بصقالة المجاهدة عن غبار حب ما سوى الله ، وذلك هو المراد من طاعة الله وطاعة الرسول ، ثم ارتفعت الحجب الجسدانية أشرقت عليها أنوار جلال الله ، ثم انعكست تلك الأنوار من بعضها إلى بعض وصارت الأرواح الناقصة كاملة بسبب تلك العلائق الروحانية ، فهذا الاحتمال خطر بالبال والله أعلم بأسرار كلامه .
المسألة الثالثة : ليس المراد بكون من أطاع الله وأطاع الرسول مع النبيين والصديقين ، كون الكل في درجة واحدة ، لأن هذا يقتضي التسوية في الدرجة بين الفاضل والمفضول ، وإنه لا يجوز . بل المراد كونهم في الجنة بحيث يتمكن كل واحد منهم من رؤية الآخر ، وإن بعد المكان ، لأن الحجاب إذا زال شاهد بعضهم بعضا ، وإذا أرادوا الزيارة والتلاقي قدروا عليه ، فهذا هو المراد من هذه المعية .