المسألة الرابعة : اعلم أنه تعالى ذكر النبيين ، ثم ذكر أوصافا ثلاثة : الصديقين والشهداء والصالحين ، واتفقوا على أن النبيين مغايرون للصديقين والشهداء والصالحين ، فأما هذه الصفات الثلاثة فقد اختلفوا فيها ، قال بعضهم : هذه الصفات كلها لموصوف واحد ، وهي صفات متداخلة فإنه لا يمتنع في الشخص الواحد أن يكون صديقا وشهيدا وصالحا . وقال الآخرون : بل المراد بكل وصف صنف من الناس ، وهذا الوجه أقرب لأن المعطوف يجب أن يكون مغايرا للمعطوف عليه ، وكما أن النبيين غير من ذكر بعدهم ، فكذلك الصديقون يجب أن يكونوا غير من ذكر بعدهم وكذا القول في سائر الصفات ، ولنبحث عن هذه الصفات الثلاث :
الصفة الأولى : الصديق : وهو اسم لمن عادته الصدق ، ومن غلب على عادته فعل إذا وصف بذلك الفعل قيل فيه فعيل ، كما يقال : سكير وشريب وخمير ،
والصدق صفة كريمة فاضلة من صفات المؤمنين ،
[ ص: 138 ] وكفى الصدق فضيلة أن الإيمان ليس إلا التصديق ،
وكفى الكذب مذمة أن الكفر ليس إلا التكذيب .
إذا عرفت هذا فنقول : للمفسرين في
الصديق وجوه :
الأول : أن كل من صدق بكل الدين لا يتخالجه فيه شك فهو صديق ، والدليل عليه قوله تعالى : (
والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون ) [ الحديد : 19 ] .
الثاني : قال قوم : الصديقون أفاضل أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام .
الثالث : أن الصديق اسم لمن سبق إلى تصديق الرسول عليه الصلاة والسلام فصار في ذلك قدوة لسائر الناس ، وإذا كان الأمر كذلك كان
nindex.php?page=showalam&ids=1أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه أولى الخلق بهذا الوصف ، أما بيان أنه سبق إلى تصديق الرسول عليه الصلاة والسلام فلأنه قد اشتهرت الرواية عن الرسول عليه الصلاة والسلام أنه قال : "
ما عرضت الإسلام على أحد إلا وله نبوة غير أبي بكر فإنه لم يتلعثم " دل هذا الحديث على أنه صلى الله عليه وسلم لما عرض الإسلام على
أبي بكر قبله
أبو بكر ولم يتوقف ، فلو قدرنا أن إسلامه تأخر عن إسلام غيره لزم أن يقال : إن النبي صلى الله عليه وسلم قصر حيث أخر عرض الإسلام عليه ، وهذا لا يكون قدحا في
أبي بكر ، بل يكون قدحا في الرسول صلى الله عليه وسلم وذلك كفر ، ولما بطل نسبة هذا التقصير إلى الرسول علمنا أنه صلى الله عليه وسلم ما قصر في عرض الإسلام عليه ، ولما بطل نسبة هذا التقصير إلى الرسول علمنا أنه صلى الله عليه وسلم ما قصر في عرض الإسلام عليه ، والحديث دل على أن
أبا بكر لم يتوقف البتة ، فحصل من مجموع الأمرين أن
أبا بكر رضي الله تعالى عنه أسبق الناس إسلاما ، أما بيان أنه كان قدوة لسائر الناس في ذلك فلأن بتقدير أن يقال : إن إسلام
علي كان سابقا على إسلام
أبي بكر ، إلا أنه لا يشك عاقل أن
عليا ما صار قدوة في ذلك الوقت ، لأن
عليا كان في ذلك الوقت صبيا صغيرا ، وكان أيضا في تربية الرسول عليه الصلاة والسلام ، وكان شديد القرب منه بالقرابة ،
وأبو بكر ما كان شديد القرب منه بالقرابة ، وإيمان من هذا شأنه يكون سببا لرغبة سائر الناس في الإسلام . وذلك لأنهم اتفقوا على أنه رضي الله تعالى عنه لما آمن جاء بعد ذلك بمدة قليلة
nindex.php?page=showalam&ids=7بعثمان بن عفان رضي الله عنه ،
وطلحة والزبير nindex.php?page=showalam&ids=37وسعد بن أبي وقاص nindex.php?page=showalam&ids=5559وعثمان بن مظعون رضي الله تعالى عنهم أجمعين حتى أسلموا ، فكان إسلامه سببا لاقتداء هؤلاء الأكابر به ، فثبت بمجموع ما ذكرنا أنه رضوان الله عليه كان أسبق الناس إسلاما ، وثبت أن إسلامه صار سببا لاقتداء أفاضل الصحابة في ذلك الإسلام ، فثبت أن أحق الأمة بهذه الصفة
أبو بكر رضي الله عنه . إذا عرفت هذا فنقول : هذا الذي ذكرناه يقتضي أنه كان أفضل الخلق بعد الرسول صلى الله عليه وسلم ، وبيانه من وجهين :
الأول : أن إسلامه لما كان أسبق من غيره وجب أن يكون ثوابه أكثر ؛ لقوله عليه الصلاة والسلام : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=16011426من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة " .
الثاني : أنه بعد أن أسلم جاهد في الله وصار جهاده مفضيا إلى حصول الإسلام لأكابر الصحابة مثل
عثمان وطلحة والزبير nindex.php?page=showalam&ids=37وسعد بن أبي وقاص nindex.php?page=showalam&ids=5559وعثمان بن مظعون وعلي رضي الله تعالى عنهم ، وجاهد علي يوم
أحد ويوم الأحزاب في قتل الكفار ، ولكن جهاد
أبي بكر رضي الله عنه أفضى إلى حصول الإسلام لمثل الذين هم أعيان الصحابة ، وجهاد
علي أفضى إلى قتل الكفار ، ولا شك أن الأول أفضل ، وأيضا
فأبو بكر جاهد في أول الإسلام حين كان النبي صلى الله عليه وسلم في غاية الضعف ،
وعلي إنما جاهد يوم
أحد ويوم الأحزاب ، وكان الإسلام قويا في هذه الأيام ، ومعلوم أن
الجهاد وقت الضعف أفضل من الجهاد وقت القوة ، ولهذا المعنى قال تعالى : (
لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا ) [ الحديد : 10 ] فبين أن نصرة الإسلام وقت ما كان ضعيفا أعظم ثوابا من نصرته وقت ما كان قويا ، فثبت من مجموع ما ذكرنا أن أولى الناس بهذا الوصف هو الصديق ، فلهذا أجمع المسلمون على تسليم هذا اللقب له إلا من لا يلتفت إليه فإنه ينكره ، ودل تفسير الصديق بما ذكرناه على أنه
[ ص: 139 ] لا مرتبة بعد النبوة في الفضل والعلم إلا هذا الوصف وهو كون الإنسان صديقا ، وكما دل الدليل عليه فقد دل لفظ القرآن عليه ، فإنه أينما ذكر الصديق والنبي لم يجعل بينهما واسطة ، فقال في وصف
إسماعيل : (
إنه كان صادق الوعد ) [ مريم : 54 ] وفي صفة
إدريس (
إنه كان صديقا نبيا ) [ مريم : 56 ] وقال في هذه الآية : (
من النبيين والصديقين ) يعني إنك إن ترقيت من الصديقية وصلت إلى النبوة ، وإن نزلت من النبوة وصلت إلى الصديقية ، ولا متوسط بينهما ، وقال في آية أخرى : (
والذي جاء بالصدق وصدق به ) [ الزمر : 33 ] فلم يجعل بينهما واسطة ، وكما دلت هذه الدلائل على نفي الواسطة فقد وفق الله هذه الأمة الموصوفة بأنها خير أمة حتى جعلوا الإمام بعد الرسول عليه الصلاة والسلام
أبا بكر على سبيل الإجماع ، ولما توفي رضوان الله عليه دفنوه إلى جنب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وما ذاك إلا أن الله تعالى رفع الواسطة بين النبيين والصديقين في هذه الآية ، فلا جرم ارتفعت الواسطة بينهما في الوجوه التي عددناها .
الصفة الثانية : الشهادة : والكلام في الشهداء قد مر في مواضع من هذا الكتاب ، ولا بأس بأن نعيد البعض فنقول : لا يجوز أن تكون الشهادة مفسرة بكون الإنسان مقتول الكافر ، والذي يدل عليه وجوه :
الأول : أن هذه الآية دالة على أن
مرتبة الشهادة مرتبة عظيمة في الدين ، وكون الإنسان مقتول الكافر ليس فيه زيادة شرف ، لأن هذا القتل قد يحصل في الفساق ومن لا منزلة له عند الله .
الثاني : أن المؤمنين قد يقولون : اللهم ارزقنا الشهادة ، فلو كانت الشهادة عبارة عن قتل الكافر إياه لكانوا قد طلبوا من الله ذلك القتل وإنه غير جائز ، لأن طلب صدور ذلك القتل من الكافر كفر ، فكيف يجوز أن يطلب من الله ما هو كفر .
الثالث : روي أنه صلى الله عليه وسلم قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=16012423المبطون شهيد والغريق شهيد ، فعلمنا أن الشهادة ليست عبارة عن القتل ، بل نقول : الشهيد فعيل بمعنى الفاعل ، وهو الذي يشهد بصحة دين الله تعالى تارة بالحجة والبيان ، وأخرى بالسيف والسنان ، فالشهداء هم القائمون بالقسط ، وهم الذين ذكرهم الله في قوله : (
شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط ) [ آل عمران : 18 ] ويقال للمقتول في سبيل الله شهيد من حيث إنه بذل نفسه في نصرة دين الله ، وشهادته له بأنه هو الحق وما سواه هو الباطل ، وإذا كان من شهداء الله بهذا المعنى كان من شهداء الله في الآخرة ، كما قال : (
وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ) [ البقرة : 143 ] .
الصفة الثالثة : الصالحون : والصالح هو الذي يكون صالحا في اعتقاده وفي عمله ، فإن الجهل فساد في الاعتقاد ، والمعصية فساد في العمل ، وإذا عرفت تفسير الصديق والشهيد والصالح ظهر لك ما بين هذه الصفات من التفاوت ، وذلك لأن كل من كان اعتقاده صوابا وكان عمله طاعة وغير معصية فهو صالح ، ثم إن الصالح قد يكون بحيث يشهد لدين الله بأنه هو الحق وأن ما سواه هو الباطل ، وهذه
الشهادة تارة تكون بالحجة والدليل وأخرى بالسيف ، وقد لا يكون الصالح موصوفا بكونه قائما بهذه الشهادة ، فثبت أن كل من كان شهيدا كان صالحا ، وليس كل من كان صالحا شهيدا ، فالشهيد أشرف أنواع الصالح ، ثم إن الشهيد قد يكون صديقا وقد لا يكون ، ومعنى الصديق الذي كان أسبق إيمانا من غيره ، وكان إيمانه قدوة لغيره ، فثبت أن كل من كان صديقا كان شهيدا ، وليس كل من كان شهيدا كان صديقا ، فثبت أن
أفضل الخلق هم الأنبياء عليهم السلام ، وبعدهم الصديقون ، وبعدهم من ليس له درجة إلا محض درجة الشهادة ، وبعدهم من ليس له إلا محض درجة الصلاح . فالحاصل أن أكابر الملائكة يأخذون الدين الحق عن الله ، والأنبياء يأخذون
[ ص: 140 ] عن الملائكة ، كما قال : (
ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده ) [ النحل : 2 ] والصديقون يأخذونه عن الأنبياء . والشهداء يأخذونه عن الصديقين ، لأنا بينا أن الصديق هو الذي يأخذ في المرة الأولى عن الأنبياء وصار قدوة لمن بعده ، والصالحون يأخذونه عن الشهداء ، فهذا هو تقرير هذه المراتب وإذا عرفت هذا ظهر لك أنه لا أحد يدخل الجنة إلا وهو داخل في بعض هذه النعوت والصفات .