ثم قال تعالى : (
فإن أصابتكم مصيبة ) يعني من القتل والانهزام وجهد من العيش . يعني لم أكن معهم شهيدا حاضرا حتى يصيبني ما أصابهم من البلاء والشدة (
ولئن أصابكم فضل من الله ) من ظفر وغنيمة ليقولن : (
كأن لم تكن بينكم وبينه مودة ياليتني كنت معهم فأفوز فوزا عظيما ) وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قرأ
ابن كثير وحفص عن
عاصم (
كأن لم تكن ) بالتاء المنقطة من فوق يعني المودة ، والباقون بالياء لتقدم الفعل . قال
الواحدي : وكلا القراءتين قد جاء به التنزيل . قال : (
قد جاءتكم موعظة من ربكم ) [ يونس : 57 ] وقال في آية أخرى : (
فمن جاءه موعظة من ربه ) [ البقرة : 275 ] فالتأنيث هو الأصل والتذكير يحسن إذا كان التأنيث غير حقيقي ، سيما إذا وقع فاصل بين الفعل والفاعل .
المسألة الثانية : قرأ
الحسن ( ليقولن ) بضم اللام أعاد الضمير إلى معنى " من " لأن قوله : (
لمن ليبطئن ) في معنى الجماعة ، إلا أن هذه القراءة ضعيفة لأن " من " وإن كان جماعة في المعنى لكنه مفرد في اللفظ ، وجانب الإفراد قد ترجح في قوله : (
قال قد أنعم الله علي ) وفي قوله : (
ياليتني كنت معهم فأفوز فوزا عظيما ) .
المسألة الثالثة : لقائل أن يقول : لو كان التنزيل هكذا : ولئن أصابكم فضل من الله ليقولن يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزا عظيما كان النظم مستقيما حسنا ، فكيف وقع قوله : (
كأن لم تكن بينكم وبينه مودة ) في البين ؟
وجوابه : أنه اعتراض وقع في البين وهو في غاية الحسن ، بيانه أنه تعالى حكى عن هذا
المنافق أنه إذا [ ص: 144 ] وقعت للمسلمين نكبة أظهر السرور الشديد بسبب أنه كان متخلفا عنهم ، ولو فازوا بغنيمة ودولة أظهر الغم الشديد بسبب فوات تلك الغنيمة ، ومثل هذه المعاملة لا يقدم عليها الإنسان إلا في حق الأجنبي العدو ، لأن
من أحب إنسانا فرح عند فرحه وحزن عند حزنه ، فأما إذا قلبت هذه القضية فذاك إظهار للعداوة .
إذا عرفت هذه المقدمة فنقول : إنه تعالى حكى عن هذا المنافق سروره وقت نكبة المسلمين ، ثم أراد أن يحكي حزنه عند دولة المسلمين بسبب أنه فاته الغنيمة ، فقبل أن يذكر هذا الكلام بتمامه ألقى في البين قوله : (
كأن لم تكن بينكم وبينه مودة ) والمراد التعجب كأنه تعالى يقول : انظروا إلى ما يقول هذا المنافق كأنه ليس بينكم أيها المؤمنون وبينه مودة ولا مخالطة أصلا ، فهذا هو المراد من الكلام ، وهو وإن كان كلاما واقعا في البين على سبيل الاعتراض إلا أنه في غاية الحسن .