(
أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا ) .
قوله تعالى : (
أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا ) .
اعلم أنه تعالى لما حكى عن المنافقين أنواع مكرهم وكيدهم ، وكان كل ذلك لأجل أنهم ما كانوا يعتقدون كونه محقا في ادعاء الرسالة صادقا فيه ، بل كانوا يعتقدون أنه مفتر متخرص ، فلا جرم أمرهم الله تعالى بأن ينظروا ويتفكروا في
الدلائل الدالة على صحة نبوته . فقال : (
أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا ) فاحتج تعالى بالقرآن على صحة نبوته وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : التدبير والتدبر عبارة عن النظر في عواقب الأمور وأدبارها ، ومنه قوله : إلام تدبروا أعجاز أمور قد ولت صدورها ، ويقال في فصيح الكلام : لو استقبلت من أمري ما استدبرت ، أي لو عرفت في صدر أمري ما عرفت من عاقبته .
المسألة الثانية : اعلم أن ظاهر الآية يدل على أنه تعالى احتج بالقرآن على صحة نبوة
محمد صلى الله عليه وسلم ، إذ لو
[ ص: 157 ] لم تحمل الآية على ذلك لم يبق لها تعلق بما قبلها البتة ، والعلماء قالوا :
دلالة القرآن على صدق محمد صلى الله عليه وسلم من ثلاثة أوجه :
أولها : فصاحته .
وثانيها : اشتماله على الإخبار عن الغيوب .
والثالث : سلامته عن الاختلاف ، وهذا هو المذكور في هذه الآية .
ثم القائلون بهذا القول ذكروا في تفسير سلامته عن الاختلاف ثلاثة أوجه :
الأول : قال
أبو بكر الأصم : معناه أن هؤلاء المنافقين كانوا يتواطئون في السر على أنواع كثيرة من المكر والكيد ، والله تعالى كان يطلع الرسول عليه الصلاة والسلام على تلك الأحوال حالا فحالا ، ويخبره عنها على سبيل التفصيل ، وما كانوا يجدون في كل ذلك إلا الصدق ، فقيل لهم : إن ذلك لو لم يحصل بإخبار الله تعالى وإلا لما اطرد الصدق فيه ، ولظهر في قول
محمد أنواع الاختلاف والتفاوت ، فلما لم يظهر ذلك علمنا أن ذلك ليس إلا بإعلام الله تعالى .
والثاني : وهو الذي ذهب إليه أكثر المتكلمين أن المراد منه أن القرآن كتاب كبير ، وهو مشتمل على أنواع كثيرة من العلوم ، فلو كان ذلك من عند غير الله لوقع فيه أنواع من الكلمات المتناقضة ، لأن الكتاب الكبير الطويل لا ينفك عن ذلك ، ولما لم يوجد فيه ذلك علمنا أنه ليس من عند غير الله .
فإن قيل : أليس أن قوله : (
وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة ) [ القيامة : 22- 23 ] كالمناقض لقوله تعالى : (
لا تدركه الأبصار ) [ الأنعام : 103 ] وآيات الجبر كالمناقضة لآيات القدر ، وقوله : (
فوربك لنسألنهم أجمعين ) [ الحجر : 92 ] كالمناقض لقوله : (
فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان ) [ الرحمن : 39 ] .
قلنا : قد شرحنا في هذا التفسير أنه لا منافاة ولا مناقضة بين شيء منها البتة .
الوجه الثالث : في تفسير قولنا :
القرآن سليم عن الاختلاف : ما ذكره
أبو مسلم الأصفهاني ، وهو أن المراد منه الاختلاف في رتبة الفصاحة ، حتى لا يكون في جملته ما يعد في الكلام الركيك ، بل بقيت الفصاحة فيه من أوله إلى آخره على نهج واحد ، ومن المعلوم أن الإنسان وإن كان في غاية البلاغة ونهاية الفصاحة ، فإذا كتب كتابا طويلا مشتملا على المعاني الكبيرة ، فلا بد وأن يظهر التفاوت في كلامه بحيث يكون بعضه قويا متينا وبعضه سخيفا نازلا ، ولما لم يكن القرآن كذلك علمنا أنه لمعجز من عند الله تعالى ، وضرب القاضي لهذا مثلا فقال : إن الواحد منا لا يمكنه أن يكتب الطوامير الطويلة بحيث لا يقع في شيء من تلك الحروف خلل ونقصان ، حتى لو رأينا الطوامير الطويلة مصونة عن مثل هذا الخلل والنقصان لكان ذلك معدودا في الإعجاز فكذا ههنا .