ثم قال تعالى : (
ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان ) وفيه مسائل :
المسألة الأولى : أن ظاهر هذا الاستثناء يوهم أن ذلك القليل وقع لا بفضل الله ولا برحمته ومعلوم أن ذلك محال . فعند هذا اختلف المفسرون وذكروا وجوها ، قال بعضهم : هذا الاستثناء راجع إلى قوله : (
أذاعوا ) وقال قوم : راجع إلى قوله : (
لعلمه الذين يستنبطونه ) وقال آخرون : إنه راجع إلى قوله : (
ولولا فضل الله عليكم ورحمته ) .
واعلم أن الوجوه لا يمكن أن تزيد على هذه الثلاثة لأن الآية متضمنة للإخبار عن هذه الأحكام الثلاثة ، ويصح صرف الاستثناء إلى كل واحد منها ، فثبت أن كل واحد من هذه الأقوال محتمل .
أما القول الأول : فالتقدير : وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به إلا قليلا ، فأخرج تعالى بعض المنافقين عن الإذاعة كما أخرجهم في قوله : (
بيت طائفة منهم غير الذي تقول ) .
والقول الثاني : الاستثناء عائد إلى قوله : (
لعلمه الذين يستنبطونه منهم ) يعني لعلمه الذين يستنبطونه منهم إلا القليل : قال
الفراء nindex.php?page=showalam&ids=15153والمبرد : القول الأول أولى لأن ما يعلم بالاستنباط فالأقل يعلمه ، والأكثر يجهله ، وصرف الاستثناء إلى ما ذكروه يقتضي ضد ذلك . قال
الزجاج : هذا غلط لأنه ليس المراد من هذا الاستثناء شيئا يستخرجه بنظر دقيق وفكر غامض ، إنما هو استنباط خبر ، وإذا كان كذلك فالأكثرون يعرفونه ، إنما البالغ في البلادة والجهالة هو الذي لا يعرفه ويمكن أن يقال : كلام
الزجاج إنما يصح لو حملنا الاستنباط على مجرد تعرف الأخبار والأراجيف ، أما إذا حملناه على الاستنباط في جميع الأحكام كما صححنا ذلك بالدليل كان الحق كما ذكره
الفراء nindex.php?page=showalam&ids=15153والمبرد .
القول الثالث : أنه متعلق بقوله :
( ولولا فضل الله عليكم ورحمته ) ومعلوم أن صرف الاستثناء إلى ما يليه ويتصل به أولى من صرفه إلى الشيء البعيد عنه .
واعلم أن هذا القول لا يتمشى إلا إذا فسرنا الفضل والرحمة بشيء خاص ، وفيه وجهان :
الأول : وهو قول جماعة من المفسرين ، أن المراد بفضل الله وبرحمته في هذه الآية إنزال القرآن وبعثة
محمد صلى الله عليه وسلم ، والتقدير : ولولا بعثة
محمد صلى الله عليه وسلم وإنزال القرآن لاتبعتم الشيطان وكفرتم بالله إلا قليلا منكم ، فإن ذلك القليل بتقدير عدم بعثة
محمد صلى الله عليه وسلم وعدم إنزال القرآن ما كان يتبع الشيطان ، وما كان يكفر بالله ، وهم مثل
قس بن ساعدة وورقة بن نوفل ،
وزيد بن عمرو بن نفيل ، وهم الذين كانوا مؤمنين بالله قبل بعثة
محمد صلى الله عليه وسلم .
الوجه الثاني : ما ذكره
أبو مسلم ، وهو أن المراد بفضل الله وبرحمته في هذه الآية هو نصرته تعالى ومعونته اللذان عناهما المنافقون بقولهم : (
فأفوز فوزا عظيما ) [ النساء : 73 ] فبين تعالى أنه لولا حصول النصر
[ ص: 162 ] والظفر على سبيل التتابع لاتبعتم الشيطان وتركتم الدين إلا القليل منكم ، وهم أهل البصائر الناقدة والنيات القوية والعزائم المتمكنة من أفاضل المؤمنين الذين يعلمون أنه ليس من شرط كونه حقا حصول الدولة في الدنيا ، فلأجل تواتر الفتح والظفر يدل على كونه حقا ، ولأجل تواتر الانهزام والانكسار يدل على كونه باطلا ، بل الأمر في كونه حقا وباطلا على الدليل ، وهذا أصح الوجوه وأقربها إلى التحقيق .