صفحة جزء
( ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما ) .

قوله تعالى : ( ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما ) .

اعلم أنه تعالى لما ذكر حكم القتل الخطأ ذكر بعده بيان حكم القتل العمد ، وله أحكام مثل وجوب القصاص والدية ، وقد ذكر تعالى ذلك في سورة البقرة وهو قوله : ( ياأيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى ) [ البقرة : 178 ] فلا جرم ههنا اقتصر على بيان ما فيه من الإثم والوعيد ، وفي الآية مسائل :

المسألة الأولى : استدلت الوعيدية بهذه الآية على أمرين :

أحدهما : على القطع بوعيد الفساق .

والثاني : على خلودهم في النار ، ووجه الاستدلال أن كلمة " من " في معرض الشرط تفيد الاستغراق ، وقد استقصينا في تقرير كلامهم في سورة البقرة في تفسير قوله : ( بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ) [ البقرة : 81 ] وبالغنا في الجواب عنها ، وزعم الواحدي أن الأصحاب سلكوا في الجواب عن هذه الآية طرقا كثيرة . قال : وأنا لا أرتضي شيئا منها لأن التي ذكروها إما تخصيص ، وإما معارضة ، وإما إضمار ، واللفظ لا يدل على شيء من ذلك . قال : والذي اعتمده وجهان :

الأول : إجماع المفسرين على أن الآية نزلت في كافر قتل مؤمنا ثم ذكر تلك القصة .

والثاني : أن قوله : ( فجزاؤه جهنم ) معناه الاستقبال أي أنه سيجزى بجهنم ، وهذا وعيد ، قال : وخلف الوعيد كرم ، وعندنا أنه يجوز أن يخلف الله وعيد المؤمنين ، فهذا حاصل كلامه الذي زعم أنه خير مما قاله غيره .

وأقول : أما الوجه الأول فضعيف ، وذلك لأنه ثبت في أصول الفقه أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، فإذا ثبت أن اللفظ الدال على الاستغراق حاصل ، فنزوله في حق الكفار لا يقدح في ذلك العموم ، فيسقط هذا الكلام بالكلية ، ثم نقول : كما أن عموم اللفظ يقتضي كونه عاما في كل قاتل موصوف بالصفة المذكورة ، فكذا ههنا وجه آخر يمنع من تخصيص هذه الآية بالكافر ، وبيانه من وجوه :

الأول : أنه تعالى أمر المؤمنين بالمجاهدة مع الكفار ثم علمهم ما يحتاجون إليه عند اشتغالهم بالجهاد ، فابتدأ بقوله : ( وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ ) [ النساء : 92 ] فذكر في هذه الآية ثلاث كفارات : كفارة قتل المسلم في دار الإسلام ، وكفارة قتل المسلم عند سكونه مع أهل الحرب ، وكفارة قتل المسلم عند سكونه مع أهل الذمة وأهل العهد ، ثم ذكر عقيبه حكم قتل العمد مقرونا بالوعيد ، فلما كان بيان حكم قتل الخطأ بيانا لحكم اختص بالمسلمين كان بيان حكم القتل العمد الذي هو كالضد لقتل الخطأ ، وجب أن يكون أيضا مختصا بالمؤمنين ، فإن لم [ ص: 190 ] يختص بهم فلا أقل من دخولهم فيه .

الثاني : أنه تعالى قال بعد هذه الآية : ( ياأيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا ) [ النساء : 94 ] وأجمع المفسرون على أن هذه الآيات إنما نزلت في حق جماعة من المسلمين لقوا قوما فأسلموا فقتلوهم وزعموا أنهم إنما أسلموا من الخوف ، وعلى هذا التقدير : فهذه الآية وردت في نهي المؤمنين عن قتل الذين يظهرون الإيمان ؛ وهذا أيضا يقتضي أن يكون قوله : ( ومن يقتل مؤمنا متعمدا ) نازلا في نهي المؤمنين عن قتل المؤمنين حتى يحصل التناسب ، فثبت بما ذكرنا أن ما قبل هذه الآية وما بعدها يمنع من كونها مخصوصة بالكفار .

الثالث : أنه ثبت في أصول الفقه أن ترتيب الحكم على الوصف المناسب له يدل على كون ذلك الوصف علة لذلك الحكم ، وبهذا الطريق عرفنا أن قوله : ( والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما ) [ المائدة : 38 ] وقوله : ( الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما ) [ النور : 2 ] الموجب للقطع هو السرقة ، والموجب للجلد هو الزنا ، فكذا ههنا وجب أن يكون الموجب لهذا الوعيد هو هذا القتل العمد ، لأن هذا الوصف مناسب لذلك الحكم ، فلزم كون ذلك الحكم معللا به ، وإذا كان الأمر كذلك لزم أن يقال : أينما ثبت هذا المعنى فإنه يحصل هذا الحكم ، وبهذا الوجه لا يبقى لقوله : الآية مخصوصة بالكافر وجه .

الوجه الرابع : أن المنشأ لاستحقاق هذا الوعيد إما أن يكون هو الكفر أو هذا القتل المخصوص ، فإن كان منشأ هذا الوعيد هو الكفر كان الكفر حاصلا قبل هذا القتل ، فحينئذ لا يكون لهذا القتل أثر البتة في هذا الوعيد ، وعلى هذا التقدير تكون هذه الآية جارية مجرى ما يقال : إن من يتعمد قتل نفس فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ، لأن القتل العمد لما لم يكن له تأثير في هذا الوعيد جرى مجرى النفس ومجرى سائر الأمور التي لا أثر لها في هذا الوعيد ، ومعلوم أن ذلك باطل ، وإن كان منشأ هذا الوعيد هو كونه قتلا عمدا فحينئذ يلزم أن يقال : أينما حصل القتل يحصل هذا الوعيد ، وحينئذ يسقط هذا السؤال ، فثبت بما ذكرنا أن هذا الوجه الذي ارتضاه الواحدي ليس بشيء .

وأما الوجه الثاني من الوجهين اللذين اختارهما فهو في غاية الفساد لأن الوعيد قسم من أقسام الخبر ، فإذا جوز على الله الخلف فيه فقد جوز الكذب على الله ، وهذا خطأ عظيم ، بل يقرب من أن يكون كفرا ، فإن العقلاء أجمعوا على أنه تعالى منزه عن الكذب ، ولأنه إذا جوز الكذب على الله في الوعيد لأجل ما قال : إن الخلف في الوعيد كرم ، فلم لا يجوز الخلف في القصص والأخبار لغرض المصلحة ، ومعلوم أن فتح هذا الباب يفضي إلى الطعن في القرآن وكل الشريعة فثبت أن كل واحد من هذين الوجهين ليس بشيء .

وحكى القفال في تفسيره وجها آخر ، هو الجواب وقال : الآية تدل على أن جزاء القتل العمد هو ما ذكر ، لكن ليس فيها أنه تعالى يوصل هذا الجزاء إليه أم لا ، وقد يقول الرجل لعبده : جزاؤك أن أفعل بك كذا وكذا ، إلا أني لا أفعله ، وهذا الجواب أيضا ضعيف لأنه ثبت بهذه الآية أن جزاء القتل العمد هو ما ذكر ، وثبت بسائر الآيات أنه تعالى يوصل الجزاء إلى المستحقين . قال تعالى : ( من يعمل سوءا يجز به ) [ النساء : 123 ] وقال : ( اليوم تجزى كل نفس بما كسبت ) [ غافر : 17 ] وقال : ( فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره ) [ الزلزلة : 7 - 8 ] بل إنه تعالى ذكر في هذه الآية ما يدل على أنه يوصل إليهم هذا الجزاء وهو قوله : ( وأعد له عذابا عظيما ) [ ص: 191 ] فإن بيان أن هذا جزاؤه حصل بقوله : ( فجزاؤه جهنم خالدا فيها ) فلو كان قوله : ( وأعد له عذابا عظيما ) إخبارا عن الاستحقاق كان تكرارا ، فلو حملناه على الإخبار عن أنه تعالى سيفعل لم يلزم التكرار ، فكان ذلك أولى .

واعلم أنا نقول : هذه الآية مخصوصة في موضعين :

أحدهما : أن يكون القتل العمد غير عدوان كما في القصاص فإنه لا يحصل فيه هذا الوعيد البتة .

والثاني : القتل العمد العدوان إذا تاب عنه فإنه لا يحصل فيه الوعيد ، وإذا ثبت دخول التخصيص فيه في هاتين الصورتين فنحن نخصص هذا العموم فيما إذا حصل العفو بدليل قوله تعالى : ( ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ) [ النساء : 48 ] وأيضا فهذه الآية إحدى عمومات الوعيد ، وعمومات الوعد أكثر من عمومات الوعيد ، وما ذكره في ترجيح عمومات الوعيد قد أجبنا عنه وبينا أن عمومات الوعد راجحة ، وكل ذلك قد ذكرناه في سورة البقرة في تفسير قوله تعالى : ( بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ) [ البقرة : 81 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية