[ ص: 151 ] المسألة الثانية : أن هذه الكلمة كما دلت على وجود الإله فهي أيضا مشتملة على الدلالة على
كونه متعاليا في ذاته عن المكان والحيز والجهة ؛ لأنا بينا أن لفظ العالمين يتناول كل موجود سوى الله ، ومن جملة ما سوى الله المكان والزمان ، فالمكان عبارة عن الفضاء والحيز والفراغ الممتد ، والزمان عبارة عن المدة التي يحصل بسببها القبلية والبعدية ، فقوله : (
رب العالمين ) يدل على كونه ربا للمكان والزمان ، وخالقا لهما ، وموجدا لهما ، ثم من المعلوم أن الخالق لا بد وأن يكون سابقا وجوده على وجود المخلوق ، ومتى كان الأمر كذلك كانت ذاته موجودة قبل حصول الفضاء والفراغ والحيز ، متعالية عن الجهة والحيز ، فلو حصلت ذاته بعد حصول الفضاء في جزء من أجزاء الفضاء لانقلبت حقيقة ذاته ، وذلك محال ، فقوله : (
رب العالمين ) يدل على تنزيه ذاته عن المكان والجهة بهذا الاعتبار .
المسألة الثالثة : هذه اللفظة تدل على أن
ذاته منزهة عن الحلول في المحل كما تقول
النصارى والحلولية ؛ لأنه لما كان ربا للعالمين كان خالقا لكل ما سواه ، والخالق سابق على المخلوق ، فكانت ذاته موجودة قبل كل محل ، فكانت ذاته غنية عن كل محل ، فبعد وجود المحل امتنع احتياجه إلى المحل .
المسألة الرابعة : هذه الآية تدل على أن إله العالم ليس موجبا بالذات ، بل هو فاعل مختار ، والدليل على أن الموجب بالذات لا يستحق على شيء من أفعاله الحمد والثناء والتعظيم ، ألا ترى أن الإنسان إذا انتفع بسخونة النار أو ببرودة الجمد فإنه لا يحمد النار ولا الجمد ؛ لما أن تأثير النار في التسخين وتأثير الجمد في التبريد ليس بالقدرة والاختيار ، بل بالطبع ، فلما حكم بكونه مستحقا للحمد والثناء ثبت أنه فاعل بالاختيار ، وإنما عرفنا كونه فاعلا مختارا ؛ لأنه لو كان موجبا لدامت الآثار والمعلولات بدوام المؤثر الموجب ، ولامتنع وقوع التغير فيها ، وحيث شاهدنا حصول التغيرات علمنا أن المؤثر فيها قادر بالاختيار لا موجب بالذات ، ولما كان الأمر كذلك لا جرم ثبت كونه مستحقا للحمد .