(
ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما ) .
ثم
قال تعالى : ( ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما ) .
والمراد بالذين يختانون أنفسهم
طعمة ومن عاونه من قومه ، ممن علم كونه سارقا ، والاختيان كالخيانة ، يقال : خانه واختانه ، وذكرنا ذلك عند قوله تعالى : (
علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم ) [البقرة : 187] . وإنما قال تعالى
لطعمة ولمن ذب عنهم : إنهم يختانون أنفسهم ؛ لأن من أقدم على المعصية فقد حرم نفسه الثواب ، وأوصلها إلى العقاب ، فكان ذلك منه خيانة مع نفسه ، ولهذا المعنى يقال لمن ظلم غيره : إنه ظلم نفسه .
واعلم أن في الآية تهديدا شديدا ؛ وذلك لأن النبي عليه الصلاة والسلام لما مال طبعه قليلا إلى جانب
طعمة ، وكان في علم الله أن
طعمة كان فاسقا ، فالله تعالى عاتب رسوله على ذلك القدر من إعانة المذنب ، فكيف حال من
يعلم من الظالم -كونه ظالما -ثم يعينه على ذلك الظلم ، بل يحمله عليه ويرغبه فيه أشد الترغيب ؟ .
ثم قال تعالى : (
إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما ) قال المفسرون : إن
طعمة خان في الدرع ، وأثم في نسبة اليهودي إلى تلك السرقة ، فلا جرم قال الله تعالى : (
إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما ) .
[ ص: 29 ] فإن قيل : لم قال ( خوانا أثيما ) مع أن الصادر عنه خيانة واحدة وإثم واحد ؟ .
قلنا : علم الله تعالى أنه كان في طبع ذلك الرجل الخيانة الكثيرة والإثم الكثير ، فذكر اللفظ الدال على المبالغة بسبب ما كان في طبعه من الميل إلى ذلك ، ويدل عليه ما رويناه أنه بعد هذه الواقعة هرب إلى
مكة وارتد ، ونقب حائط إنسان لأجل السرقة ، فسقط الحائط عليه ومات ، ومن كان خاتمته كذلك لم يشك في خيانته ، وأيضا طلب من النبي عليه الصلاة والسلام أن يدفع السرقة عنه ويلحقها باليهودي ، وهذا يبطل رسالة الرسول ، ومن
حاول إبطال رسالة الرسول ، وأراد إظهار كذبه فقد كفر ، فلهذا المعنى وصفه الله بالمبالغة في الخيانة والإثم .
وقيل : إذا عثرت من رجل على سيئة فاعلم أن لها أخوات . عن
عمر -رضي الله عنه- أنه أمر بقطع يد سارق ، فجاءت أمه تبكي ، وتقول : هذه أول سرقة سرقها فاعف عنه ، فقال : كذبت إن الله لا يؤاخذ عبده في أول الأمر . واعلم أنه تعالى لما خص هذا الوعيد بمن كان عظيم الخيانة والإثم دل ذلك على أن من كان قليل الخيانة والإثم فهو خارج عنه .