(
وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن )
ثم قال تعالى : (
وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن ) وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : اعلم أن في قوله : (
وإن الذين اختلفوا فيه ) قولين :
الأول : أنهم هم
النصارى وذلك لأنهم بأسرهم متفقون على أن
اليهود قتلوه ، إلا أن كبار فرق
النصارى ثلاثة : النسطورية ، والملكانية ، واليعقوبية .
أما
النسطورية فقد زعموا أن المسيح صلب من جهة ناسوته لا من جهة لاهوته ، وأكثر الحكماء يرون ما يقرب من هذا القول ، قالوا : لأنه ثبت أن الإنسان ليس عبارة عن هذا الهيكل بل هو إما جسم شريف منساب في هذا البدن ، وإما جوهر روحاني مجرد في ذاته وهو مدبر في هذا البدن ، فالقتل إنما ورد على هذا الهيكل ، وأما النفس التي هي في الحقيقة
عيسى - عليه السلام - فالقتل ما ورد عليه ، لا يقال : فكل إنسان كذلك فما الوجه لهذا التخصيص ؟ لأنا نقول : إن نفسه كانت قدسية علوية سماوية شديدة الإشراق بالأنوار الإلهية عظيمة القرب من أرواح الملائكة ، والنفس متى كانت كذلك لم يعظم تألمها بسبب القتل وتخريب البدن ، ثم إنها بعد الانفصال عن ظلمة البدن تتخلص إلى فسحة السماوات وأنوار عالم الجلال فيعظم بهجتها وسعادتها هناك ، ومعلوم أن هذه الأحوال غير حاصلة لكل الناس بل هي غير حاصلة من مبدأ خلقة
آدم - عليه السلام - إلى قيام القيامة إلا لأشخاص قليلين ، فهذا هو الفائدة في تخصيص
عيسى - عليه السلام - بهذه الحالة .
وأما
الملكانية فقالوا : القتل والصلب وصلا إلى اللاهوت بالإحساس والشعور لا بالمباشرة . وقالت
اليعقوبية : القتل والصلب وقعا بالمسيح الذي هو جوهر متولد من جوهرين ، فهذا هو شرح
مذاهب النصارى في هذا الباب ، وهو المراد من قوله : (
وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ) .
والقول الثاني : إن المراد بالذين اختلفوا هم
اليهود ، وفيه وجهان :
الأول : أنهم لما قتلوا الشخص المشبه به كان الشبه قد ألقي على وجهه ولم يلق عليه شبه جسد
عيسى - عليه السلام - ، فلما قتلوه ونظروا إلى بدنه قالوا : الوجه وجه
عيسى والجسد جسد غيره .
الثاني : قال
السدي : إن
اليهود حبسوا
عيسى مع عشر من
[ ص: 81 ] الحواريين في بيت ، فدخل عليه رجل من
اليهود ليخرجه ويقتله ، فألقى الله شبه
عيسى عليه ورفع إلى السماء ، فأخذوا ذلك الرجل وقتلوه على أنه
عيسى - عليه السلام - ، ثم قالوا : إن كان هذا
عيسى فأين صاحبنا ، وإن كان صاحبنا فأين
عيسى ؟ فذلك اختلافهم فيه .
المسألة الثانية : احتج نفاة القياس بهذه الآية وقالوا :
العمل بالقياس اتباع للظن ، واتباع الظن مذموم في كتاب الله بدليل أنه إنما ذكره في معرض الذم ، ألا ترى أنه تعالى وصف
اليهود والنصارى ههنا في معرض الذم بهذا فقال : (
ما لهم به من علم إلا اتباع الظن ) وقال في سورة الأنعام في مذمة الكفار : (
إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون ) [الأنعام : 116] وقال في آية أخرى (
إن الظن لا يغني من الحق شيئا ) [يونس : 36] وكل ذلك يدل على أن اتباع الظن مذموم .
والجواب : لا نسلم أن العمل بالقياس اتباع للظن ، فإن الدليل القاطع لما دل على العمل بالقياس كان الحكم المستفاد من القياس معلوما لا مظنونا ، وهذا الكلام له غور وفيه بحث .