(
إلا ما يتلى عليكم غير محلي الصيد وأنتم حرم إن الله يحكم ما يريد )
واعلم أنه تعالى لما ذكر قوله : (
أحلت لكم بهيمة الأنعام ) ألحق به نوعين من الاستثناء :
الأول : قوله : (
إلا ما يتلى عليكم ) واعلم أن ظاهر هذا الاستثناء مجمل ، واستثناء الكلام المجمل من الكلام المفصل يجعل ما بقي بعد الاستثناء مجملا أيضا ، إلا أن المفسرين أجمعوا على أن المراد من هذا الاستثناء هو المذكور بعد هذه الآية وهو قوله : (
حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على النصب ) ووجه هذا أن قوله : (
أحلت لكم بهيمة الأنعام ) يقتضي إحلالها لهم على جميع الوجوه فبين الله تعالى أنها إن كانت ميتة ، أو موقوذة أو متردية أو نطيحة أو افترسها السبع أو ذبحت على غير اسم الله تعالى فهي محرمة .
النوع الثاني من الاستثناء : قوله تعالى : (
غير محلي الصيد وأنتم حرم ) وفيه مسائل :
المسألة الأولى : أنه تعالى لما أحل بهيمة الأنعام ذكر الفرق بين صيدها وغير صيدها ، فعرفنا أن ما كان منها صيدا ، فإنه حلال في الإحلال دون الإحرام ، وما لم يكن صيدا فإنه حلال في الحالين جميعا والله أعلم .
المسألة الثانية : قوله : (
وأنتم حرم ) أي : محرمون أي : داخلون في
الإحرام بالحج والعمرة أو أحدهما ، يقال : أحرم بالحج والعمرة فهو محرم وحرم ، كما يقال : أجنب فهو مجنب وجنب ، ويستوي فيه الواحد والجمع ، يقال قوم حرم كما يقال قوم جنب . قال تعالى : (
وإن كنتم جنبا فاطهروا ) [المائدة : 65] .
واعلم أنا إذا قلنا : أحرم الرجل فله معنيان : الأول هذا .
والثاني : أنه دخل
الحرم . فقوله : (
وأنتم حرم ) يشتمل على الوجهين ، فيحرم
الصيد على من كان في الحرم كما يحرم على من كان محرما بالحج أو العمرة ، وهو قول الفقهاء .
المسألة الثالثة : اعلم أن ظاهر الآية يقتضي أن
الصيد حرام على المحرم ، ونظير هذه الآية قوله تعالى : (
وإذا حللتم فاصطادوا ) فإن " إذا " للشرط ، والمعلق بكلمة الشرط على الشيء عدم عند عدم ذلك الشيء ، إلا أنه تعالى بين في آية أخرى أن المحرم على المحرم إنما هو صيد البر لا صيد البحر ، قال تعالى : (
أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما ) [المائدة : 96] فصارت هذه الآية بيانا لتلك الآيات المطلقة .
المسألة الرابعة : انتصب " غير " على الحال من قوله : (
أحلت لكم ) كما تقول : أحل لكم الطعام غير معتدين فيه . قال
الفراء : هو مثل قولك : أحل لك الشيء لا مفرطا فيه ولا متعديا ، والمعنى أحلت لكم بهيمة
[ ص: 101 ] الأنعام إلا أن تحلوا
الصيد في حال الإحرام فإنه لا يحل لكم ذلك إذا كنتم محرمين .
ثم قال تعالى : (
إن الله يحكم ما يريد ) والمعنى أنه تعالى أباح الأنعام في جميع الأحوال ، وأباح الصيد في بعض الأحوال دون بعض ، فلو قال قائل : ما السبب في هذا التفصيل والتخصيص كان جوابه أن يقال : إنه تعالى مالك الأشياء وخالقها فلم يكن على حكمه اعتراض بوجه من الوجوه ، وهذا هو الذي يقوله أصحابنا إن علة حسن التكليف هي الربوبية والعبودية لا ما يقوله
المعتزلة من رعاية المصالح .