المسألة الثالثة : قال
داود : يجب
الوضوء لكل صلاة ، وقال أكثر الفقهاء : لا يجب . احتج
داود بهذه الآية من وجهين :
الأول : أن ظاهر لفظ الآية يدل على ذلك ، فإن قوله : (
إذا قمتم إلى الصلاة ) إما أن يكون المراد منه قياما واحدا وصلاة واحدة ، فيكون المراد منه الخصوص ، أو يكون المراد منه العموم ، والأول باطل لوجوه :
الأول : أن على هذا التقدير تصير الآية مجملة لأن تعيين تلك المرة غير مذكور في الآية ، وحمل الآية على الإجمال إخراج لها عن الفائدة ، وذلك خلاف الأصل .
وثانيها : أنه يصح إدخال الاستثناء عليه ، ومن شأنه إخراج ما لولاه لدخل ، وذلك يوجب العموم .
وثالثها : أن الأمة مجمعة على أن الأمر بالوضوء غير مقصور في هذه الآية على مرة واحدة ولا على شخص واحد ، وإذا بطل هذا وجب حمله على العموم عند كل قيام إلى الصلاة ، إذ لو لم تحمل هذه الآية على هذا المحمل لزم احتياج هذه الآية في دلالتها على ما هو مراد الله تعالى إلى سائر الدلائل ، فتصير هذه الآية وحدها مجملة ، وقد بينا أنه خلاف الأصل ، فثبت بما ذكرنا أن ظاهر هذه الآية يدل على وجوب الوضوء عند كل قيام إلى الصلاة .
الوجه الثاني : أنا نستفيد هذا العموم من إيماء اللفظ ، وذلك لأن الصلاة اشتغال بخدمة المعبود ، والاشتغال بالخدمة يجب أن يكون مقرونا بأقصى ما يقدر العبد عليه من التعظيم ، ومن وجوه التعظيم كونه آتيا بالخدمة حال كونه في غاية النظافة ، ولا شك أن تجديد الوضوء عند كل قيام إلى الصلاة مبالغة في النظافة ، ومعلوم أن ذكر الحكم عقيب الوصف يدل على كون ذلك الحكم معللا بذلك الوصف المناسب ، وذلك يقتضي عموم الحكم لعمومه ، فيلزم وجوب الوضوء عند كل قيام إلى الصلاة . ثم قال
داود : ولا يجوز أن يقال ورد في القراءة الشاذة : إذا قمتم إلى الصلاة وأنتم محدثون ، أو يقال : إنا نترك ظاهر هذه الآية لورود خبر الواحد على خلافه ، قال : أما القراءة الشاذة فمردودة قطعا ، لأنا إن جوزنا ثبوت قرآن غير منقول بالتواتر لزم الطعن في كل القرآن ، وهو أن يقال : إن القرآن كان أكثر مما هو الآن بكثير إلا أنه لم ينقل ، وأيضا فلأن
[ ص: 120 ] معرفة أحوال الوضوء من أعظم ما عم به البلوى ، ومن أشد الأمور التي يحتاج كل أحد إلى معرفتها ، فلو كان ذلك قرآنا لامتنع بقاؤه في حيز الشذوذ ، وأما
التمسك بخبر الواحد فقال : هذا يقتضي نسخ القرآن بالخبر ، وذلك لا يجوز . قال الفقهاء : إن
كلمة " إذا " لا تفيد العموم بدليل أنه لو قال لامرأته : إذا دخلت الدار فأنت طالق فدخلت مرة طلقت ، ثم لو دخلت ثانيا لم تطلق ثانيا ، وذلك يدل على أن كلمة " إذا " لا تفيد العموم ، وأيضا إن السيد إذا قال لعبده : إذا دخلت السوق فادخل على فلان وقل له كذا وكذا ، فهذا لا يفيد الأمر بالفعل إلا مرة واحدة .
واعلم أن مذهب
داود في مسألة الطلاق غير معلوم ؛ فلعله يلتزم العموم ، وأيضا فله أن يقول : إنا قد دللنا على أن كلمة " إذا " في هذه الآية تفيد العموم لأن التكاليف الواردة في القرآن مبناها على التكرير ، وليس الأمر كذلك في الصور التي ذكرتم ، فإن القرائن الظاهرة دلت على أنه ليس مبنى الأمر فيها على التكرير ، وأما الفقهاء فإنهم استدلوا على صحة قولهم بما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم -
nindex.php?page=hadith&LINKID=16012518كان يتوضأ لكل صلاة إلا يوم الفتح فإنه صلى الصلوات كلها بوضوء واحد . قال عمر - رضي الله عنه - : فقلت له في ذلك فقال : عمدا فعلت ذلك يا عمر .
أجاب
داود بأنا ذكرنا أن
خبر الواحد لا ينسخ القرآن ، وأيضا فهذا الخبر يدل على أنه - صلى الله عليه وسلم - كان مواظبا على تجديد الوضوء لكل صلاة ، وهذا يقتضي وجوب ذلك علينا لقوله تعالى : ( فاتبعوه ) بقي أن يقال : قد جاء في هذا الخبر أنه ترك ذلك يوم الفتح ، فنقول : لما وقع التعارض فالترجيح معنا من وجوه :
الأول : هب أن التجديد لكل صلاة ليس بواجب لكنه مندوب ، والظاهر أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يزيد في يوم الفتح في الطاعات ولا ينقص منها ، لأن ذلك اليوم هو يوم إتمام النعمة عليه ، وزيادة النعمة من الله تناسب زيادة الطاعات لا نقصانها .
والثاني : أن الاحتياط لا شك أنه من جانبنا فيكون راجحا لقوله - عليه الصلاة والسلام - : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=16012519دع ما يريبك إلى ما لا يريبك " .
الثالث : أن ظاهر القرآن أولى من خبر الواحد .
والرابع : أن دلالة القرآن على قولنا لفظية ، ودلالة الخبر الذي رويتم على قولكم فعلية ، والدلالة القولية أقوى من الدلالة الفعلية ، لأن الدلالة القولية غنية عن الفعلية ولا ينعكس ، فهذا ما في هذه المسألة والله أعلم . والأقوى في إثبات المذهب المشهور أن يقال : لو وجب الوضوء لكل صلاة لكان الموجب للوضوء هو القيام إلى الصلاة ولم يكن لغيره تأثير في إيجاب الوضوء ، لكن ذلك باطل لأنه تعالى قال في آخر هذه الآية : (
أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا ) أوجب
التيمم على المتغوط والمجامع إذا لم يجد الماء ، وذلك يدل على كون كل واحد منهما سببا لوجوب الطهارة عند وجود الماء ، وذلك يقتضي أن يكون وجوب الوضوء قد يكون بسبب آخر سوى القيام إلى الصلاة ، وذلك يدل على ما قلناه .