الحجة السادسة عشرة :
روي أنه صلى الله عليه وسلم كان يكتب في أول الأمر على رسم قريش " باسمك اللهم " حتى نزل قوله تعالى : ( اركبوا فيها بسم الله مجراها ومرساها ) [ هود : 41 ] فكتب " بسم الله " فنزل قوله : ( قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن ) [ الإسراء : 110 ] فكتب " بسم الله الرحمن " فلما نزل قوله تعالى : ( إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم ) [ النمل : 30 ] كتب مثلها ، وجه الاستدلال أن أجزاء هذه الكلمة كلها من القرآن ، ومجموعها من القرآن ، ثم إنه ثبت في القرآن ، فوجب الجزم بأنه من القرآن ، إذ لو جاز إخراجه من القرآن مع هذه الموجبات الكثيرة ومع الشهرة لجاز إخراج سائر الآيات كذلك ، وذلك يوجب الطعن في القرآن .
الحجة السابعة عشرة : قد بينا أنه ثبت بالتواتر أن الله تعالى كان ينزل هذه الكلمة على
محمد عليه الصلاة والسلام وكان يأمر بكتبه بخط المصحف ، وبينا أن حاصل الخلاف في أنه هل هو من القرآن ، فرجع إلى أحكام مخصوصة مثل أنه هل يجب قراءته ، وهل يجوز للجنب قراءته ، وللمحدث مسه ؟ فنقول : ثبوت هذه الأحكام أحوط ، فوجب المصير إليه ؛ لقوله عليه الصلاة والسلام :
nindex.php?page=hadith&LINKID=16011213دع ما يريبك إلى ما لا يريبك .
واحتج المخالف بأشياء : الأول : تعلقوا بخبر
nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة ، وهو
nindex.php?page=hadith&LINKID=16011231أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : يقول الله تعالى : قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ، فإذا قال العبد : الحمد لله رب العالمين يقول الله تعالى : حمدني عبدي ، وإذا قال : الرحمن الرحيم يقول الله تعالى : أثنى علي عبدي ، وإذا قال : مالك يوم الدين يقول الله تعالى : مجدني عبدي ، وإذا قال : إياك نعبد وإياك نستعين يقول الله تعالى : هذا بيني وبين عبدي . والاستدلال بهذا الخبر من وجهين : الأول : أنه عليه الصلاة والسلام لم يذكر التسمية ، ولو كانت آية من الفاتحة لذكرها ، والثاني : أنه تعالى قال : جعلت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ، والمراد من الصلاة الفاتحة ، وهذا التنصيف إنما يحصل إذا قلنا : إن التسمية ليست آية من الفاتحة ؛ لأن الفاتحة سبع آيات ، فيجب أن يكون فيها لله ثلاث آيات ونصف وهي من قوله : (
الحمد لله ) إلى قوله : (
إياك نعبد ) وللعبد ثلاث آيات ونصف وهي من قوله : (
وإياك نستعين ) إلى آخر السورة . أما إذا جعلنا بسم الله الرحمن الرحيم آية من الفاتحة حصل لله أربع آيات ونصف ، وللعبد آيتان ونصف ، وذلك يبطل التنصيف المذكور .
الحجة الثانية : روت
nindex.php?page=showalam&ids=25عائشة رضي الله تعالى عنها
nindex.php?page=hadith&LINKID=16011232أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفتتح الصلاة بالتكبير ، والقراءة بـ ( الحمد لله رب العالمين ) ، وهذا يدل على أن التسمية ليست آية من الفاتحة .
الحجة الثالثة : لو كان قوله : بسم الله الرحمن الرحيم آية من هذه السورة لزم التكرار في قوله : الرحمن الرحيم ، وذلك بخلاف الدليل .
والجواب عن الحجة الأولى من وجوه :
الأول : أنا نقلنا أن الشيخ
nindex.php?page=showalam&ids=13968أبا إسحاق الثعلبي روى بإسناده أن النبي صلى الله عليه وسلم لما ذكر هذا الحديث عد بسم الله الرحمن الرحيم آية تامة من سورة الفاتحة ، ولما تعارضت الروايتان فالترجيح معنا ؛ لأن رواية الإثبات مقدمة على رواية النفي .
الثاني : روى
أبو داود السختياني ، عن
[ ص: 166 ] nindex.php?page=showalam&ids=12354النخعي ، عن
مالك ، عن
العلاء بن عبد الرحمن ، عن أبيه ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة ،
nindex.php?page=hadith&LINKID=16011233أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : وإذا قال العبد ( مالك يوم الدين ) يقول الله تعالى : مجدني عبدي وهو بيني وبين عبدي . إذا عرفت هذا فنقول : قوله في (
مالك يوم الدين ) هذا بيني وبين عبدي ، يعني في القسمة ، وإنما يكون كذلك إذا حصلت ثلاثة قبلها وثلاثة بعدها ، وإنما يحصل ثلاثة قبلها لو كانت التسمية آية من الفاتحة ، فصار هذا الخبر حجة لنا من هذا الوجه .
الثالث : أن لفظ النصف كما يحتمل النصف في عدد الآيات فهو أيضا يحتمل النصف في المعنى ، قال عليه الصلاة والسلام :
nindex.php?page=hadith&LINKID=16011234الفرائض نصف العلم ، وسماه بالنصف من حيث إنه بحث عن أحوال الأموات ، والموت والحياة قسمان ، وقال
شريح : أصبحت ونصف الناس علي غضبان ، سماه نصفا من حيث إن بعضهم راضون وبعضهم ساخطون .
الرابع : إن دلائلنا في أن بسم الله الرحمن الرحيم آية من الفاتحة صريحة ، وهذا الخبر الذي تمسكوا به ليس المقصود منه بيان أن
بسم الله الرحمن الرحيم هل هي من الفاتحة أم لا ، لكن المقصود منه بيان شيء آخر ، فكانت دلائلنا أقوى وأظهر .
الخامس : أنا بينا أن قولنا أقرب إلى الاحتياط .
والجواب عن حجتهم الثانية ما قال
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي فقال : لعل
nindex.php?page=showalam&ids=25عائشة جعلت (
الحمد لله رب العالمين ) اسما لهذه السورة ، كما يقال : قرأ فلان "
الحمد لله الذي خلق السماوات " والمراد أنه قرأ هذه السورة ، فكذا هاهنا ، وتمام الجواب عن خبر
أنس سيأتي بعد ذلك .
والجواب عن الحجة الثالثة أن التكرار لأجل التأكيد كثير في القرآن ، وتأكيد كون الله تعالى رحمانا رحيما من أعظم المهمات ، والله أعلم .
المسألة السابعة : في بيان عدد آيات هذه السورة ، رأيت في بعض الروايات الشاذة أن
nindex.php?page=showalam&ids=14102الحسن البصري كان يقول : هذه السورة ثمان آيات ، فأما الرواية المشهورة التي أطبق الأكثرون عليها أن هذه السورة سبع آيات ، وبه فسروا قوله تعالى : (
ولقد آتيناك سبعا من المثاني ) [ الحجر : 87 ] إذا ثبت هذا فنقول : الذين قالوا : إن بسم الله الرحمن الرحيم آية من الفاتحة ، قالوا : إن قوله : (
صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين ) آية تامة ، وأما
nindex.php?page=showalam&ids=11990أبو حنيفة فإنه لما أسقط التسمية من السورة لا جرم قال : قوله : (
صراط الذين أنعمت عليهم ) آية ، وقوله : (
غير المغضوب عليهم ولا الضالين ) آية أخرى ، إذا عرفت هذا فنقول : الذي قاله
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي أولى ، ويدل عليه وجوه :
الأول : أن مقطع قوله : (
صراط الذين أنعمت عليهم ) لا يشابه مقطع الآيات المتقدمة ، ورعاية التشابه في المقاطع لازم ؛ لأنا وجدنا مقاطع القرآن على ضربين متقاربة ومتشاكلة ، فالمتقاربة كما في سورة " ق " ، والمتشاكلة كما في سورة القمر ، وقوله : (
أنعمت عليهم ) ليس من القسمين ، فامتنع جعله من المقاطع .
الثاني : أنا إذا جعلنا قوله : (
غير المغضوب عليهم ) ابتداء آية فقد جعلنا أول الآية لفظ " غير " ، وهذا اللفظ إما أن يكون صفة لما قبله أو استثناء عما قبله ، والصفة مع الموصوف كالشيء الواحد ، وكذلك الاستثناء مع المستثنى منه كالشيء الواحد ، وإيقاع الفصل بينهما على خلاف الدليل ، أما إذا جعلنا قوله : (
صراط الذين أنعمت عليهم ) إلى آخر السورة آية واحدة كنا قد جعلنا الموصوف مع الصفة والمستثنى مع المستثنى منه كلاما واحدا وآية واحدة ، وذلك أقرب إلى الدليل .
الثالث : أن المبدل منه في حكم المحذوف ، فيكون تقدير الآية : اهدنا صراط الذين أنعمت عليهم ، لكن
طلب الاهتداء بصراط من أنعم الله عليهم لا يجوز إلا بشرطين : أن يكون ذلك المنعم عليه غير مغضوب عليه ، ولا ضالا ، فإنا لو أسقطنا هذا الشرط لم يجز الاهتداء به ،
[ ص: 167 ] والدليل عليه قوله تعالى : (
ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا ) [ إبراهيم : 28 ] وهذا يدل على أنه قد أنعم عليهم ، إلا أنهم لما صاروا من زمرة المغضوب عليهم ومن زمرة الضالين لا جرم لم يجز الاهتداء بهم ، فثبت أنه لا يجوز فصل قوله : (
صراط الذين أنعمت عليهم ) عن قوله : (
غير المغضوب عليهم ) بل هذا المجموع كلام واحد ، فوجب القول بأنه آية واحدة . فإن قالوا : أليس أن قوله : (
الحمد لله رب العالمين ) آية واحدة ، وقوله : (
الرحمن الرحيم ) آية ثانية ، ومع أن هذه الآية غير مستقلة بنفسها ، بل هي متعلقة بما قبلها ؟ قلنا : الفرق أن قوله : (
الحمد لله رب العالمين ) كلام تام بدون قوله : (
الرحمن الرحيم ) ، فلا جرم لم يمتنع أن يكون مجرد قوله : (
الحمد لله رب العالمين ) آية تامة ، ولا كذلك هذا ، لما بينا أن مجرد قوله : (
اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم ) ليس كلاما تاما ، بل ما لم يضم إليه قوله : (
غير المغضوب عليهم ولا الضالين ) لم يصح قوله : (
اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم ) ، فظهر الفرق .