المسألة الحادية عشرة :
ترجمة القرآن لا تكفي في صحة الصلاة ، لا في حق من يحسن القراءة ولا في حق من لا يحسنها ، وقال
nindex.php?page=showalam&ids=11990أبو حنيفة : إنها كافية في حق القادر والعاجز ، وقال
أبو يوسف ومحمد : إنها كافية في حق العاجز وغير كافية في حق القادر . واعلم أن مذهب
nindex.php?page=showalam&ids=11990أبي حنيفة في هذه المسألة بعيد جدا ؛ ولهذا السبب فإن الفقيه
nindex.php?page=showalam&ids=11903أبا الليث السمرقندي والقاضي
أبا زيد الدبوسي صرحا بتركه .
لنا حجج ووجوه :
الحجة الأولى : أنه صلى الله عليه وسلم إنما صلى بالقرآن المنزل من عند الله تعالى
[ ص: 172 ] باللفظ العربي ، وواظب عليه طول عمره ، فوجب أن يجب علينا مثله ؛ لقوله تعالى : (
فاتبعوه ) [ الأنعام : 153 ] والعجب أنه احتج بأنه عليه السلام مسح على ناصيته مرة على كونه شرطا في صحة الوضوء ولم يلتفت إلى مواظبته طول عمره على قراءة القرآن باللسان العربي .
الحجة الثانية : أن الخلفاء الراشدين صلوا بالقرآن العربي ، فوجب أن يجب علينا ذلك ؛ لقوله عليه السلام :
nindex.php?page=hadith&LINKID=16011205اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر ؛ ولقوله عليه السلام :
nindex.php?page=hadith&LINKID=16011251عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي ، عضوا عليها بالنواجذ .
الحجة الثالثة : أن الرسول وجميع الصحابة ما قرءوا في الصلاة إلا هذا القرآن العربي ، فوجب أن يجب علينا ذلك ؛ لقوله عليه السلام :
nindex.php?page=hadith&LINKID=16011252ستفترق أمتي على نيف وسبعين فرقة كلهم في النار إلا فرقة واحدة ، قيل : ومن هم يا رسول الله ؟ قال : ما أنا عليه وأصحابي . وجه الدليل أنه عليه السلام هو وجميع أصحابه كانوا متفقين على القراءة في الصلاة بهذا القرآن العربي ، فوجب أن يكون القارئ بالفارسية من أهل النار .
الحجة الرابعة : أن أهل ديار الإسلام مطبقون بالكلية على قراءة القرآن في الصلاة كما أنزل الله تعالى ، فمن عدل عن هذا الطريق دخل تحت قوله تعالى : (
ويتبع غير سبيل المؤمنين ) [ النساء : 115 ] .
الحجة الخامسة : أن الرجل أمر بقراءة القرآن في الصلاة ، ومن قرأ بالفارسية لم يقرأ القرآن ، فوجب أن لا يخرج عن العهدة ، إنما قولنا إنه أمر بقراءة القرآن لقوله تعالى : (
فاقرءوا ما تيسر من القرآن ) [ المزمل : 20 ] ولقوله عليه السلام للأعرابي :
nindex.php?page=hadith&LINKID=16011253ثم اقرأ بما تيسر معك من القرآن ، وإنما قلنا إن الكلام المرتب بالفارسية ليس بقرآن لوجوه :
الأول : قوله تعالى : (
وإنه لتنزيل رب العالمين ) [ الشعراء : 192 ] إلى قوله : (
بلسان عربي مبين ) [ الشعراء : 195 ] .
الثاني : قوله تعالى : (
وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ) [ إبراهيم : 4 ] .
الثالث : قوله تعالى : (
ولو جعلناه قرآنا أعجميا ) [ فصلت : 44 ] وكلمة " لو " تفيد انتفاء الشيء لانتفاء غيره ، وهذا يدل على أنه تعالى ما جعله قرآنا أعجميا ، فيلزم أن يقال : إن كل ما كان أعجميا فهو ليس بقرآن .
الرابع : قوله تعالى : (
قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا ) [ الإسراء : 88 ] فهذا الكلام المنظوم بالفارسية : إما أن يقال إنه عين الكلام العربي أو مثله ، أو لا عينه ولا مثله ، والأول معلوم البطلان بالضرورة ، والثاني باطل ، إذ لو كان هذا النظم الفارسي مثلا لذلك الكلام العربي لكان الآتي به آتيا بمثل القرآن ، وذلك يوجب تكذيب الله سبحانه في قوله : (
لا يأتون بمثله ) [ الإسراء : 88 ] ولما ثبت أن هذا الكلام المنظوم بالفارسية ليس عين القرآن ولا مثله ، ثبت أن قارئه لم يكن قارئا للقرآن ، وهو المطلوب ، فثبت أن المكلف أمر بقراءة القرآن ولم يأت به ، فوجب أن يبقى في العهدة .
الحجة السادسة : ما رواه
ابن المنذر ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=16011254لا تجزي صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب ، فنقول : هذه الكلمات المنظومة بالفارسية إما أن يقول
nindex.php?page=showalam&ids=11990أبو حنيفة : إنها قرآن ، أو يقول : إنها ليست بقرآن ، والأول جهل عظيم وخروج عن الإجماع ، وبيانه من وجوه :
الأول : أن أحدا من العقلاء لا يجوز في عقله ودينه أن يقول : إن قول القائل : " دوستان در بهشت " قرآن .
الثاني : يلزم أن يكون القادر على ترجمة القرآن آتيا بقرآن مثل الأول ، وذلك باطل .
الحجة السابعة : روى
nindex.php?page=showalam&ids=51عبد الله بن أبي أوفى nindex.php?page=hadith&LINKID=16011255أن رجلا قال : يا رسول الله ، إني لا أستطيع أن أحفظ [ ص: 173 ] القرآن كما يحسن في الصلاة ، فقال صلى الله عليه وسلم : قل سبحان الله والحمد لله . . . إلى آخر هذا الذكر ، وجه الدليل أن الرجل لما سأله
عما يجزئه في الصلاة عند العجز عن قراءة القرآن العربي أمره الرسول عليه السلام بالتسبيح ، وذلك يبطل قول من يقول : إنه يكفيه أن يقول : " دوستان دربهشت .
الحجة الثامنة : يقال : إن أول الإنجيل هو قوله : " بسم الاها رحمانا ومرحيانا " وهذا هو عين ترجمة بسم الله الرحمن الرحيم ، فلو كانت ترجمة القرآن نفس القرآن لقالت النصارى : إن هذا القرآن إنما أخذته من عين الإنجيل ، ولما لم يقل أحد هذا علمنا أن ترجمة القرآن لا تكون قرآنا .
الحجة التاسعة : أنا إذا ترجمنا قوله تعالى : (
فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة فلينظر أيها أزكى طعاما فليأتكم برزق منه ) [ الكهف : 19 ] كان ترجمته " بفرستيديكي أزشمابانقره بشهربس بنكردكه كدام طعام بهترست ياره ازان بياورد " ومعلوم أن هذا الكلام من جنس كلام الناس لفظا ومعنى ، فوجب أن لا تجوز الصلاة به ؛ لقوله عليه الصلاة والسلام :
nindex.php?page=hadith&LINKID=16011256إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس ، وإذا لم تنعقد الصلاة بترجمة هذه الآية فكذا بترجمة سائر الآيات ؛ لأنه لا قائل بالفرق ، وأيضا فهذه الحجة جارية في ترجمة قوله تعالى : (
هماز مشاء بنميم ) [ القلم : 11 ] إلى قوله : (
عتل بعد ذلك زنيم ) [ القلم : 12 ] فإن ترجمتها تكون شتما من جنس كلام الناس في اللفظ والمعنى ، وكذلك قوله تعالى : (
فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها ) [ البقرة : 61 ] فإن ترجمة هذه الآية تكون من جنس كلام الناس لفظا ومعنى ، وهذا بخلاف ما إذا قرأنا عين هذه الآيات بهذه الألفاظ ؛ لأنها بحسب تركيبها المعجز ، ونظمها البديع ، تمتاز عن كلام الناس ، والعجب من الخصوم أنهم قالوا : إنه لو ذكر في آخر التشهد دعاء يكون من جنس كلام الناس فسدت صلاته ، ثم قالوا : تصح الصلاة بترجمة هذه الآيات ، مع أن ترجمتها عين كلام الناس لفظا ومعنى .
الحجة العاشرة : قوله عليه الصلاة والسلام :
nindex.php?page=hadith&LINKID=16011257أنزل القرآن على سبعة أحرف ، كلها شاف كاف . ولو كانت ترجمة القرآن بحسب كل لغة قرآنا لكان قد أنزل القرآن على أكثر من سبعة أحرف ؛ لأن على مذهبهم قد حصل بحسب كل لغة قرآن على حدة ، وحينئذ لا يصح حصر حروف القرآن في السبعة .
الحجة الحادية عشرة : أن عند
nindex.php?page=showalam&ids=11990أبي حنيفة تصح الصلاة بجميع الآيات ، ولا شك أنه قد حصل في التوراة آيات كثيرة مطابقة لما في القرآن من الثناء على الله ومن تعظيم أمر الآخرة وتقبيح الدنيا . فعلى قول الخصم تكون الصلاة صحيحة بقراءة الإنجيل والتوراة ، وبقراءة زيد وإنسان ، ولو أنه دخل الدنيا وعاش مائة سنة ولم يقرأ حرفا من القرآن بل كان مواظبا على قراءة زيد وإنسان ، فإنه يلقى الله تعالى مطيعا ، ومعلوم بالضرورة أن هذا الكلام لا يليق بدين المسلمين .
الحجة الثانية عشرة : أنه لا ترجمة للفاتحة إلا نقول : الثناء لله رب العالمين ، ورحمان المحتاجين ، والقادر على يوم الدين ، أنت المعبود وأنت المستعان ، اهدنا إلى طريق أهل العرفان لا إلى طريق أهل الخذلان ، وإذا ثبت أن
ترجمة الفاتحة ليست إلا هذا القدر أو ما يقرب منه ، فمعلوم أنه لا خطبة إلا وقد حصل فيها هذا القدر ، فوجب أن يقال : الصلاة صحيحة بقراءة جميع الخطب ، ولما كان باطلا ، علمنا فساد هذا القول .
الحجة الثالثة عشرة : لو كان هذا جائزا لكان قد أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم
nindex.php?page=showalam&ids=23لسلمان الفارسي في أن يقرأ القرآن
[ ص: 174 ] بالفارسية ويصلي بها ، ولكان قد أذن
لصهيب في أن يقرأ بالرومية ،
ولبلال في أن يقرأ بالحبشية ؛ ولو كان هذا الأمر مشروعا لاشتهر جوازه في الخلق فإنه يعظم في أسماع أرباب اللغات بهذا الطريق ؛ لأن ذلك يزيل عنهم إتعاب النفس في تعلم اللغة العربية ، ويحصل لكل قوم فخر عظيم في أن يحصل لهم قرآن بلغتهم الخاصة ، ومعلوم أن تجويزه يفضي إلى اندراس القرآن بالكلية ، وذلك لا يقوله مسلم .
الحجة الرابعة عشرة : لو جازت
الصلاة بالقراءة بالفارسية لما جازت بالقراءة بالعربية ، وهذا جائز وذاك غير جائز ، بيان الملازمة أن الفارسي الذي لا يفهم من العربية شيئا لم يفهم من القرآن شيئا البتة ، أما إذا قرأ القرآن بالفارسية فهم المعنى ، وأحاط بالمقصود وعرف ما فيه من الثناء على الله ، ومن الترغيب في الآخرة والتنفير عن الدنيا ، ومعلوم أن المقصد الأقصى من إقامة الصلوات حصول هذه المعاني ، قال تعالى : (
وأقم الصلاة لذكري ) [ طه : 14 ] وقال تعالى : (
أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها ) [ محمد : 24 ] فثبت أن قراءة الترجمة تفيد هذه الفوائد العظيمة ، وقراءة القرآن باللفظ العربي تمنع من حصول هذه الفوائد ، فلو كانت القراءة بالفارسية قائمة مقام القراءة بالعربية في الصحة ، ثم إن القراءة بالفارسية تفيد هذه الفوائد العظيمة ، والقراءة بالعربية مانعة منها لوجب أن تكون القراءة بالعربية محرمة ، وحيث لم يكن الأمر كذلك علمنا أن القراءة بالفارسية غير جائزة .
الحجة الخامسة عشرة : المقتضى لبقاء الأمر بالصلاة قائم ، والفارق ظاهر ، أما المقتضى فلأن التكليف كان ثابتا ، والأصل في الثابت البقاء ، وأما الفارق فهو أن القرآن العربي كما أنه يطلب قراءة لمعناه ، كذلك تطلب قراءته لأجل لفظه ، وذلك من وجهين : الأول : أن الإعجاز في فصاحته ؛ وفصاحته في لفظه . والثاني : أن توقيف صحة الصلاة على قراءة لفظه يوجب حفظ تلك الألفاظ ، وكثرة الحفظ من الخلق العظيم يوجب بقاءه على وجه الدهر مصونا عن التحريف ، وذلك يوجب تحقيق ما وعد الله تعالى بقوله : (
إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ) [ الحجر : 9 ] أما إذا قلنا : إنه لا يتوقف صحة الصلاة على قراءة هذا النظم العربي ، فإنه يختل هذا المقصود ، فثبت أن المقتضى قائم ، والفارق ظاهر .