المسألة الرابعة : قوله (
ولكن يريد ليطهركم ) اختلفوا في تفسير هذا التطهير ، فقال جمهور أهل النظر من أصحاب
nindex.php?page=showalam&ids=11990أبي حنيفة رحمه الله : إن عند خروج الحدث تنجس الأعضاء نجاسة حكمية ، فالمقصود من هذا التطهير إزالة تلك النجاسة الحكمية ، وهذا الكلام عندنا بعيد جدا ، ويدل عليه وجوه :
الأول : قوله تعالى : (
إنما المشركون نجس ) ( التوبة : 28 ) وكلمة " إنما " للحصر ، وهذا يدل على أن
المؤمن لا تنجس أعضاؤه البتة .
الثاني : قوله عليه السلام : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=16012541المؤمن لا ينجس حيا ولا ميتا " فهذا الحديث مع تلك الآية كالنص الدال على بطلان ما قالوه .
الثالث : أجمعت الأمة على أن
بدن المحدث لو كان رطبا فأصابه ثوب لم يتنجس ، ولو حمله إنسان وصلى لم تفسد صلاته ، وذلك يدل على أنه لا نجاسة في أعضاء المحدث .
الرابع : أن الحدث لو كان يوجب نجاسة الأعضاء الأربعة ثم كان تطهير الأعضاء الأربعة يوجب طهارة كل الأعضاء لوجب أن لا يختلف ذلك باختلاف الشرائع ، ومعلوم أنه ليس الأمر كذلك .
الخامس : أن خروج النجاسة من موضع كيف يوجب تنجس موضع آخر !
السادس : أن قوله (
ولكن يريد ليطهركم ) مذكور عقيب التيمم ، ومن المعلوم بالضرورة أن التيمم زيادة في التقدير وإزالة الوضاءة والنظافة ، وأنه لا يزيل شيئا من النجاسات أصلا .
السابع : أن المسح على الخفين قائم مقام غسل الرجلين ، ومعلوم أن هذا المسح لا يزيل شيئا البتة عن الرجلين .
الثامن : أن الذي يراد زواله إن كان من جملة الأجسام فالحس يشهد ببطلان ذلك ، وإن كان من جملة الأعراض فهو محال ؛ لأن انتقال الأعراض محال ، فثبت بهذه الوجوه أن الذي يقوله هؤلاء الفقهاء بعيد .
الوجه الثاني : في تفسير هذا التطهير أن يكون المراد منه طهارة القلب عن صفة التمرد عن طاعة الله تعالى ؛ وذلك لأن الكفر والمعاصي نجاسة للأرواح ، فإن النجاسة إنما كانت نجاسة لأنها شيء يراد نفيه وإزالته وتبعيده ، والكفر والمعاصي كذلك ، فكانت نجاسات روحانية ، وكما أن إزالة النجاسات الجسمانية تسمى طهارة فكذلك إزالة هذه العقائد الفاسدة والأخلاق الباطلة تسمى طهارة ، ولهذا التأويل قال الله تعالى : (
إنما المشركون نجس ) فجعل رأيهم نجاسة ، وقال (
إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا ) ( الأحزاب : 33 ) فجعل براءتهم عن المعاصي طهارة لهم . وقال في حق
عيسى عليه السلام : (
إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا ) ( آل عمران : 55 ) فجعل خلاصه عن طعنهم وعن تصرفهم فيه تطهيرا له .
وإذا عرفت هذا فنقول : إنه تعالى لما أمر العبد بإيصال الماء إلى هذه الأعضاء المخصوصة ، وكانت هذه الأعضاء طاهرة لم يعرف العبد في هذا التكليف فائدة معقولة ؛ فلما انقاد لهذا التكليف كان ذلك الانقياد لمحض إظهار العبودية والانقياد للربوبية ، فكان هذا الانقياد قد أزال عن قلبه آثار التمرد فكان ذلك طهارة ، فهذا هو الوجه الصحيح في تسمية هذه الأعمال طهارة ، وتأكد هذا بالأخبار الكثيرة الواردة في أن المؤمن إذا غسل وجهه خرت خطاياه من وجهه ، وكذا القول في يديه ورأسه ورجليه .
واعلم أن هذه القاعدة التي قررناها أصل معتبر في مذهب
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي رحمه الله ، وعليه يخرج كثير من المسائل الخلافية في أبواب الطهارة والله أعلم .
[ ص: 141 ] أما قوله : (
وليتم نعمته عليكم ) ففيه وجهان :
الأول : أن الكلام متعلق بما ذكر من أول السورة إلى هنا ؛ وذلك لأنه تعالى أنعم في أول السورة بإباحة الطيبات من المطاعم والمناكح ، ثم إنه تعالى ذكر بعده كيفية فرض الوضوء فكأنه قال : إنما ذكرت ذلك لتتم النعمة المذكورة أولا ، وهي نعمة الدنيا ، والنعمة المذكورة ثانيا وهي نعمة الدين .
الثاني : أن المراد : وليتم نعمته عليكم أي بالترخص في التيمم والتخفيف في حال السفر والمرض ، فاستدلوا بذلك على أنه تعالى يخفف عنكم يوم القيامة بأن يعفو عن ذنوبكم ويتجاوز عن سيئاتكم .
ثم قال تعالى : (
لعلكم تشكرون ) والكلام في "لعل" مذكور في أول سورة البقرة في قوله تعالى : (
لعلكم تتقون ) ( البقرة : 21 ) والله أعلم .