الفائدة السادسة : أن قوله : الحمد لله كما دل على أنه لا محمود إلا الله ، فكذلك العقل دل عليه ، وبيانه من وجوه :
الأول : أنه تعالى لو لم يخلق داعية الإنعام في قلب المنعم لم ينعم ، فيكون المنعم في الحقيقة هو الله الذي خلق تلك الداعية .
وثانيها : أن
كل من أنعم على الغير فإنه يطلب بذلك الإنعام عوضا ؛ إما ثوابا ، أو ثناء ، أو توصيل حق ، أو تخليصا للنفس من خلق البخل ، وطالب العوض لا يكون منعما ، فلا يكون مستحقا للحمد في الحقيقة ، أما الله سبحانه وتعالى فإنه كامل لذاته ، والكامل لذاته لا يطلب الكمال ؛ لأن تحصيل الحاصل محال ، فكانت عطاياه جودا محضا وإحسانا محضا ، فلا جرم كان مستحقا للحمد ، فثبت
[ ص: 181 ] أنه لا يستحق الحمد إلا الله تعالى .
وثالثها : أن كل نعمة فهي من الموجودات الممكنة الوجود ، وكل ممكن الوجود فإنه وجد بإيجاد الحق إما ابتداء وإما بواسطة ، ينتج أن كل نعمة فهي من الله تعالى ، ويؤكد ذلك بقوله تعالى : (
وما بكم من نعمة فمن الله ) [ النحل : 53 ] والحمد لا معنى له إلا الثناء على الإنعام ، فلما كان لا إنعام إلا من الله تعالى وجب القطع بأن أحدا لا يستحق الحمد إلا الله تعالى .
ورابعها : النعمة لا تكون كاملة إلا عند اجتماع أمور ثلاثة :
أحدها : أن تكون منفعة ، والانتفاع بالشيء مشروط بكونه حيا مدركا ، وكونه حيا مدركا لا يحصل إلا بإيجاد الله تعالى .
وثانيها : أن المنفعة لا تكون نعمة كاملة إلا إذا كانت خالية عن شوائب الضرر والغم ، وإخلاء المنافع عن شوائب الضرر لا يحصل إلا من الله تعالى .
وثالثها : أن المنفعة لا تكون نعمة كاملة إلا إذا كانت آمنة من خوف الانقطاع ، وهذا الأمر لا يحصل إلا من الله تعالى ، إذا ثبت هذا فالنعمة الكاملة لا تحصل إلا من الله تعالى ، فوجب أن لا يستحق الحمد الكامل إلا الله تعالى ، فثبت بهذه البراهين صحة قوله تعالى : (
الحمد لله ) .
الفائدة السابعة : قد عرفت أن الحمد عبارة عن
مدح الغير بسبب كونه منعما متفضلا ، وما لم يحصل شعور الإنسان بوصول النعمة إليه امتنع تكليفه بالحمد والشكر ، إذا عرفت هذا فنقول : وجب كون الإنسان عاجزا عن حمد الله وشكره ، ويدل عليه وجوه :
الأول : أن
نعم الله على الإنسان كثيرة لا يقوى عقل الإنسان على الوقوف عليها ، كما قال تعالى : (
وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها ) [ إبراهيم : 34 ] وإذا امتنع وقوف الإنسان عليها امتنع اقتداره على الحمد والشكر والثناء اللائق بها .
الثاني : أن الإنسان إنما يمكنه القيام بحمد الله وشكره إذا أقدره الله تعالى على ذلك الحمد والشكر ، وإذا خلق في قلبه داعية إلى فعل ذلك الحمد والشكر ، وإذا زال عنه العوائق والحوائل ، فكل ذلك إنعام من الله تعالى ، فعلى هذا لا يمكنه القيام بشكر الله تعالى إلا بواسطة نعم عظيمة من الله تعالى عليه ، وتلك النعم أيضا توجب الشكر ، وعلى هذا التقدير : فالعبد لا يمكنه الإتيان بالشكر والحمد إلا عند الإتيان به مرارا لا نهاية لها ، وذلك محال ، والموقوف على المحال محال ، فكان الإنسان يمتنع منه الإتيان بحمد الله وبشكره على ما يليق به ، الثالث : أن
الحمد والشكر ليس معناه مجرد قول القائل بلسانه : الحمد لله ؛ بل معناه علم المنعم عليه بكون المنعم موصوفا بصفات الكمال والجلال ، وكل ما خطر ببال الإنسان من صفات الكمال والجلال فكمال الله وجلاله أعلى وأعظم من ذلك المتخيل والمتصور ، وإذا كان كذلك امتنع كون الإنسان آتيا بحمد الله وشكره وبالثناء عليه . الرابع : أن الاشتغال بالحمد والشكر معناه أن المنعم عليه يقابل الإنعام الصادر من المنعم بشكر نفسه وبحمد نفسه وذلك بعيد لوجوه :
أحدها : أن نعم الله كثيرة لا حد لها ، فمقابلتها بهذا الاعتقاد الواحد وبهذه اللفظة الواحدة في غاية البعد .
وثانيها : أن من اعتقد أن حمده وشكره يساوي نعم الله تعالى فقد أشرك ، وهذا معنى قول
الواسطي الشكر شرك .
وثالثها : أن
الإنسان محتاج إلى إنعام الله في ذاته وفي صفاته وفي أحواله ، والله تعالى غني عن شكر الشاكرين وحمد الحامدين ، فكيف يمكن مقابلة نعم الله بهذا الشكر وبهذا الحمد ، فثبت بهذه الوجوه أن العبد عاجز عن الإتيان بحمد الله وبشكره ، فلهذه الدقيقة لم يقل احمدوا الله ، بل قال : الحمد لله ؛ لأنه لو قال احمدوا الله فقد كلفهم ما لا طاقة لهم به ، أما لما قال : الحمد لله كان المعنى أن كمال الحمد حقه وملكه ، سواء قدر الخلق على الإتيان به أو لم يقدروا
[ ص: 182 ] عليه ؛ ونقل أن
داود عليه السلام قال : يا رب كيف أشكرك وشكري لك لا يتم إلا بإنعامك علي ، وهو أن توفقني لذلك الشكر ؟ فقال : يا
داود ، لما علمت عجزك عن شكري فقد شكرتني بحسب قدرتك وطاقتك .
الفائدة الثامنة : عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال :
إذا أنعم الله على عبده نعمة فيقول العبد : الحمد لله ، فيقول الله تعالى : انظروا إلى عبدي أعطيته ما لا قدر له فأعطاني ما لا قيمة له ، وتفسيره أن الله إذا أنعم على العبد كان ذلك الإنعام أحد الأشياء المعتادة مثل أنه كان جائعا فأطعمه ، أو كان عطشانا فأرواه ، أو كان عريانا فكساه ، أما إذا قال العبد :
الحمد لله كان معناه أن كل حمد أتى به أحد من الحامدين فهو لله ، وكل حمد لم يأت به أحد من الحامدين وأمكن في حكم العقل دخوله في الوجود فهو لله ، وذلك يدخل فيه جميع المحامد التي ذكرها ملائكة العرش والكرسي وساكنو أطباق السماوات ، وجميع المحامد التي ذكرها جميع الأنبياء من
آدم إلى
محمد صلوات الله عليهم ، وجميع المحامد التي ذكرها جميع الأولياء والعلماء ، وجميع الخلق وجميع المحامد التي سيذكرونها إلى وقت قولهم : (
دعواهم فيها سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين ) [ يونس : 10 ] ثم جميع هذه المحامد متناهية ، وأما المحامد التي لا نهاية لها هي التي سيأتون بها أبد الآباد ودهر الداهرين ، فكل هذه الأقسام التي لا نهاية لها داخلة تحت قول العبد : (
الحمد لله رب العالمين ) فلهذا السبب قال تعالى :
انظروا إلى عبدي قد أعطيته نعمة واحدة لا قدر لها ، فأعطاني من الشكر ما لا حد له ولا نهاية له .
أقول : هاهنا دقيقة أخرى ، وهي أن نعم الله تعالى على العبد في الدنيا متناهية ، وقوله : الحمد لله حمد غير متناه ، ومعلوم أن غير المتناهي إذا سقط منه المتناهي بقي الباقي غير متناه ، فكأنه تعالى يقول : عبدي ، إذا قلت : الحمد لله في مقابلة تلك النعمة فالذي بقي لك من تلك الكلمة طاعات غير متناهية ، فلا بد من مقابلتها بنعمة غير متناهية ؛ فلهذا السبب يستحق العبد الثواب الأبدي والخير السرمدي ، فثبت أن قول العبد لله يوجب سعادات لا آخر لها وخيرات لا نهاية لها .