(
وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه قل فلم يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشر ممن خلق يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما وإليه المصير )
قوله تعالى : (
وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه ) وفيه سؤال : وهو أن
اليهود لا يقولون ذلك البتة ، فكيف يجوز نقل هذا القول عنهم ؟ وأما
النصارى فإنهم يقولون ذلك في حق
عيسى لا في حق
[ ص: 152 ] أنفسهم ، فكيف يجوز هذا النقل عنهم ؟
أجاب المفسرون عنه من وجوه :
الأول : أن هذا من باب حذف المضاف ، والتقدير نحن أبناء رسل الله ، فأضيف إلى الله ما هو في الحقيقة مضاف إلى رسل الله . ونظيره قوله : (
إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله ) ( الفتح : 10 ) .
والثاني : أن لفظ الابن كما يطلق على ابن الصلب فقد يطلق أيضا على من يتخذ ابنا ، واتخاذه ابنا بمعنى تخصيصه بمزيد الشفقة والمحبة ، فالقوم لما ادعوا أن عناية الله بهم أشد وأكمل من عنايته بكل ما سواهم ، لا جرم عبر الله تعالى عن دعواهم كمال عناية الله بهم بأنهم ادعوا أنهم أبناء الله .
الثالث : أن
اليهود لما زعموا أن
عزيرا ابن الله ،
والنصارى زعموا أن
المسيح ابن الله ، ثم زعموا أن
عزيرا والمسيح كانا منهم ، صار ذلك كأنهم قالوا نحن أبناء الله ، ألا ترى أن أقارب الملك إذا فاخروا إنسانا فقد يقولون : نحن ملوك الدنيا ، ونحن سلاطين العالم ، وغرضهم منه كونهم مختصين بذلك الشخص الذي هو الملك والسلطان فكذا ههنا .
والرابع : قال
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس : إن النبي صلى الله عليه وسلم دعا جماعة من
اليهود إلى دين الإسلام وخوفهم بعقاب الله تعالى فقالوا : كيف تخوفنا بعقاب الله ونحن أبناء الله وأحباؤه ، فهذه الرواية إنما وقعت عن تلك الطائفة ، وأما
النصارى فإنهم يتلون في الإنجيل الذي لهم أن المسيح قال لهم : " أذهب إلى أبي وأبيكم " وجملة الكلام أن
اليهود والنصارى كانوا يرون لأنفسهم فضلا على سائر الخلق بسبب أسلافهم الأفاضل من الأنبياء حتى انتهوا في تعظيم أنفسهم إلى أن قالوا : نحن أبناء الله وأحباؤه .
ثم إنه تعالى أبطل عليهم دعواهم وقال : (
قل فلم يعذبكم بذنوبكم ) وفيه سؤال ، وهو أن حاصل هذا الكلام أنهم لو كانوا أبناء الله وأحباءه لما عذبهم لكنه عذبهم ، فهم ليسوا أبناء الله ولا أحباءه ، والإشكال عليه أن يقال : إما أن تدعوا أن الله عذبهم في الدنيا أو تدعوا أنه سيعذبهم في الآخرة ، فإن كان موضع الإلزام عذاب الدنيا ، فهذا لا يقدح في ادعائهم كونهم أحباء الله ؛ لأن
محمدا صلى الله عليه وسلم كان يدعي أنه هو وأمته أحباء الله ، ثم إنهم ما خلوا عن محن الدنيا . انظروا إلى وقعة
أحد ، وإلى قتل
الحسن والحسين ، وإن كان موضع الإلزام هو أنه تعالى سيعذبهم في الآخرة فالقوم ينكرون ذلك . ومجرد إخبار
محمد صلى الله عليه وسلم ليس بكاف في هذا الباب ، إذ لو كان كافيا لكان مجرد إخباره بأنهم كذبوا في ادعائهم أنهم أحباء الله كافيا ، وحينئذ يصير هذا الاستدلال ضائعا .
والجواب من وجوه :
الأول : أن موضع الإلزام هو عذاب الدنيا ، والمعارضة بيوم
أحد غير لازمة ؛ لأنه يقول : لو كانوا أبناء الله وأحباءه لما عذبهم الله في الدنيا ،
ومحمد عليه الصلاة والسلام ادعى أنه من أحباء الله ولم يدع أنه من أبناء الله فزال السؤال .
الثاني : أن موضع الإلزام هو عذاب الآخرة ،
واليهود والنصارى كانوا معترفين بعذاب الآخرة كما أخبر الله تعالى عنهم أنهم قالوا : (
لن تمسنا النار إلا أياما معدودة ) ( البقرة : 80 ) .
والثالث : المراد بقوله : (
قل فلم يعذبكم بذنوبكم ) فلم مسخكم ، فالمعذب في الحقيقة
اليهود الذين كانوا قبل
اليهود المخاطبين بهذا الخطاب في زمان الرسول عليه الصلاة والسلام ، إلا أنهم لما كانوا من جنس أولئك المتقدمين حسنت هذه الإضافة ، وهذا الجواب أولى ؛ لأنه تعالى لم يكن ليأمر رسوله عليه الصلاة والسلام أن يحتج عليهم بشيء لم يدخل بعد في الوجود فإنهم يقولون : لا نسلم أنه تعالى يعذبنا ، بل الأولى أن يحتج عليهم بشيء قد وجد وحصل حتى يكون الاستدلال به قويا متينا .
[ ص: 153 ]
ثم قال تعالى : (
بل أنتم بشر ممن خلق يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء ) يعني أنه ليس لأحد عليه حق يوجب عليه أن يغفر له ، وليس لأحد عليه حق يمنعه من أن يعذبه ، بل الملك له يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد .
واعلم أنا بينا أن مراد القوم من قولهم (
نحن أبناء الله وأحباؤه ) كمال رحمته عليهم وكمال عنايته بهم .
وإذا عرفت هذا فمذهب
المعتزلة أن
كل من أطاع الله واحترز عن الكبائر فإنه يجب على الله عقلا إيصال الرحمة والنعمة إليه أبد الآباد ، ولو قطع عنه بعد ألوف سنة في الآخرة تلك النعم لحظة واحدة لبطلت إلهيته ولخرج عن صفة الحكمة ، وهذا أعظم من قول
اليهود والنصارى : نحن أبناء الله وأحباؤه ، وكما أن قوله : (
يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء ) إبطال لقول
اليهود . فبأن يكون إبطالا لقول
المعتزلة أولى وأكمل .
ثم قال تعالى : (
ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما ) بمعنى من كان ملكه هكذا وقدرته هكذا فكيف يستحق البشر الضعيف عليه حقا واجبا ؟ وكيف يملك الإنسان الجاهل بعبادته الناقصة ومعرفته القليلة عليه دينا . إنها كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا .
ثم قال تعالى : (
وإليه المصير ) أي وإليه يؤول أمر الخلق في الآخرة ؛ لأنه لا يملك الضر والنفع هناك إلا هو كما قال (
والأمر يومئذ لله ) .