المسألة الثالثة : اختلف الناس في أن
موسى وهارون عليهما السلام هل بقيا في التيه أم لا ؟ فقال قوم : إنهما ما كانا في التيه ، قالوا : ويدل عليه وجوه :
الأول : أنه عليه السلام دعا الله يفرق بينه وبين القوم الفاسقين ، ودعوات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مجابة ، وهذا يدل على أنه عليه السلام ما كان معهم في ذلك الموضع .
والثاني : أن ذلك التيه كان عذابا والأنبياء لا يعذبون .
والثالث : أن القوم إنما عذبوا بسبب أنهم تمردوا
وموسى وهارون ما كانا كذلك ، فكيف يجوز أن يكونا مع أولئك الفاسقين في ذلك العذاب .
وقال آخرون : إنهما كانا مع القوم في ذلك التيه إلا أنه تعالى سهل عليهما ذلك العذاب كما سهل النار على إبراهيم فجعلها بردا وسلاما ، ثم القائلون بهذا القول اختلفوا في أنهما
هل ماتا في التيه أو خرجا منه ؟ فقال قوم : إن
هارون مات في التيه ثم مات
موسى بعده بسنة ، وبقي
يوشع بن نون وكان ابن أخت
موسى ووصيه بعد موته ، وهو الذي فتح الأرض المقدسة .
وقيل : إنه ملك
الشأم بعد ذلك . وقال آخرون : بل بقي
موسى بعد ذلك وخرج من التيه وحارب الجبارين وقهرهم وأخذ الأرض المقدسة ، والله أعلم .
المسألة الرابعة :
قوله : ( فإنها محرمة عليهم ) الأكثرون على أنه تحريم منع لا تحريم تعبد ، وقيل : يجوز أيضا أن يكون تحريم تعبد ، فأمرهم بأن يمكثوا في تلك المفازة في الشدة والبلية عقابا لهم على سوء صنيعهم .
المسألة الخامسة : اختلفوا في التيه فقال
الربيع : مقدار ستة فراسخ ، وقيل : تسعة فراسخ في ثلاثين فرسخا . وقيل : ستة في اثني عشر فرسخا ، وقيل : كانوا ستمائة ألف فارس .
فإن قيل : كيف يعقل
بقاء هذا الجمع العظيم في هذا القدر الصغير من المفازة أربعين سنة بحيث لا يتفق لأحد منهم أن يجد طريقا إلى الخروج عنها ، ولو أنهم وضعوا أعينهم على حركة الشمس أو الكواكب لخرجوا منها ولو كانوا في البحر العظيم ، فكيف في المفازة الصغيرة ؟
قلنا : فيه وجهان :
الأول : أن انخراق العادات في زمان الأنبياء غير مستبعد ، إذ لو فتحنا باب الاستبعاد لزم الطعن في جميع المعجزات ؛ وإنه باطل .
الثاني : إذا فسرنا ذلك التحريم بتحريم التعبد فقد زال السؤال لاحتمال أن الله تعالى حرم عليهم الرجوع إلى أوطانهم ، بل أمرهم بالمكث في تلك المفازة أربعين سنة مع المشقة والمحنة جزاء لهم على سوء صنيعهم ، وعلى هذا التقدير فقد زال الإشكال .
[ ص: 160 ] المسألة السادسة : يقال : تاه يتيه تيها وتيها وتوها ، والتيه أعمها ، والتيهاء الأرض التي لا يهتدى فيها .
قال
الحسن : كانوا يصبحون حيث أمسوا ، ويمسون حيث أصبحوا ، وكانت حركتهم في تلك المفازة على سبيل الاستدارة ، وهذا مشكل فإنهم إذا وضعوا أعينهم على مسير الشمس ولم ينعطفوا ولم يرجعوا فإنهم لا بد وأن يخرجوا عن المفازة ، بل الأولى حمل الكلام على تحريم التعبد على ما قررناه ، والله أعلم .